في قلب الرياض، حيث تختلط خطى العابرين بأنفاس الذاكرة، يتجلى القمر على هيئة فن. ليس قمرًا فلكيًا، بل قمرًا من نورٍ وحروفٍ وإحساس، صنعه الفنان السعودي زمان جاسم، ليضيء محطة قصر الحكم بعمله الفني التفاعلي “لما اكتمل القمر”.
في أول العروض الفنية لآرت الرياض في محطات قطار الرياض، يتحول العبور اليومي إلى تأملٍ، ويتحوّل المترو من وسيلة مواصلات إلى فسحة تأمل روحي. فكل تفصيلة في هذا العمل تختزن طبقات من الحنين والإحساس المرهف. تخوض “هي” حديث فني ملهم مع الفنان السعودي زمان جاسم عن عمله الإبداعي.
الفن مرآة الذاكرة .. الفنان زمان جاسم
عند الحديث عن تجربة فنية عمرها أكثر أكثر من ثلاثة عقود، لا بد أن نستحضر المسارات التي صنعت هذا الامتداد. يعبر لـ”هي” قائلاً: “أستلهم أعمالي من الحكايات الإنسانية العميقة، ومن الموروث المحلي الذي أحمله بداخلي كامتداد للذاكرة الجمعية. أؤمن بأن الفن وسيلة للبوح للتوثيق للتأمل. هو لغة تسافر عبر الزمن لتفتح أبوابًا للحوار بين الذات والعالم، بين التاريخ واللحظة الآنية.”
من اكتمال القمر إلى لحظة الغياب، من أين جاء الإلهام؟
تولد بعض الأعمال كأنها نُسجت من تأمل عميق في حركات الطبيعة، وزمن الإنسان، ودوراته المتكررة. وهذا ما حدث مع العمل الفني التفاعلي “لما اكتمل القمر” الذي جاء كخاتمة لرحلة فنية طويلة بدأت بمشاريع سابقة مثل “ولادة” و”ريحة هلي”، حيث كان الفنان دائمًا مأخوذًا بفكرة “الاكتمال” و”الرحيل”.
وعلى ذلك يوضح زمان جاسم:” القمر في ثقافتنا رمز للامتلاء، للجمال، لكنه أيضًا يوشك على الاختفاء لحظة اكتماله، تمامًا كما اللحظات الجميلة في حياتنا. الشكل الدائري المتكرر هو انعكاس لفكرة الدورة، للزمن، للقدر، ولحتمية التغيير أردت أن يلامس هذا الإيقاع الداخلي وجدان المتلقي”.

في محطة المترو كل مرتحل يحمل قصة
تبدو محطات المترو أماكن عبور سريعة، لكنها في عمقها لحظات مكثفة من الوجود. المسافر لا يترك المكان فقط، بل يعبر من فكرة إلى أخرى، من إحساس إلى آخر. يوضح الفنان السعودي بشاعرية قائلاً: “محطة المترو ليست مجرد مكان للعبور، بل هي اختزال يومي لفكرة الرحيل والعودة التي نحياها جميعًا”.
يكمل الحديث:” من يمر بمحطة قصر الحكم يمر أيضًا برحلة داخلية فالرحيل ليس فقط عن المكان، بل عن لحظة، عن ذاكرة، عن فكرة، وربما عن شخص. أردت لهذا العمل أن يكون مرآة للمسافر، ليرى نفسه في دورة القمر، ويتأمل في معنى الوقت، وفي ما يفقده وما يعود إليه”.
حين يلتقي الشعر بالنور تتشكل التجربة
في هذا العمل، لا يقتصر الفن على الصورة، بل يمتد إلى الصوت، والإضاءة، والحرف، في تجربة حسية متكاملة يتجاوز الإدراك إلى إحساس صافي. يقول:”التجربة الحسية كانت عنصرًا أساسيًا في العمل. سعيت لخلق بيئة تستدعي التأمل عبر طبقات متعددة من الأصوات، الإضاءات، والصور المتداخلة. استعنت بشعر شعبي من الزهيريات، وقمت بتشكيله بصريًا من خلال حروفيات شارك فيها خطاط ومخرج، بحيث يندمج الصوت بالصورة بالنور… ليعيش المشاهد لحظة تتجاوز الإدراك الحسي إلى الشعور الداخلي العميق.

فن في فضاء مفتوح… تحديات ومسؤوليات
ليست كل البيئات مهيأة لاحتضان عمل فني تفاعلي، خاصةً حين يكون في مساحة عامة كمحطة مترو. لكن الجمال الحقيقي يظهر حين يتجسد الفن رغم التحديات. يقول جاسم: “أكبر التحديات كانت في المحافظة على الحسّ الجمالي للعمل مع ضمان ملاءمته تقنياً للموقع. اعتمدت على مواد ذات جودة عالية واستعنت بخبرات متعددة، مع مراعاة استمرارية العمل وتكامله مع حركة الزوّار اليومية دون أن يطغى على المكان بل يندمج فيه.”
وراء النور… حكايات خفية
ينسج زمان جاسم طبقات غير مرئية من ذات رمزية خاصة، يقول:” هناك طبقات غير مرئية للعمل، منها النصوص الشعرية التي قد لا تُقرأ من أول وهلة لكنها تخلق طيفاً من الحنين. المجسمات النورانية تشبه الأجرام السماوية، لكنها في الحقيقة تحاكي حالاتنا الإنسانية. كما أن التدرج في الإضاءة يمثل المراحل العمرية من الولادة حتى الرحيل. كل تفصيلة في العمل تحمل خلفها قصة، وما لا يُقال أحياناً يكون أبلغ”.

قصيدة معلقة على جدار الزمن
ليس “لما اكتمل القمر” عملاً فنيًا فحسب، بل هو قصيدة مشيّدة، تنطق بالحسّ، وتُشعل الذاكرة. إنه تجربة تسكن القلب قبل العين، وتأخذ من القمر استعارة لرحلة الإنسان. يقول: “عندما اكتمل القمر ليس تركيبًا بصريًا فقط، بل قصيدة مجسّدة وتأمل في الذات والزمن والرحلة البشرية. ويسعدني أن يحتضنه قلب الرياض، شاهداً على أن الفن لا يعيش في المتاحف فقط، بل في نبض المدينة، وفي كل تفصيلة من الضوء والظل.”
هذا العمل هو جزء من مبادرة “الرياض آرت” التي تسعى إلى تحويل مدينة الرياض إلى معرض فني مفتوح، من خلال دمج الأعمال الفنية في الأماكن العامة ومحطات المترو، لتعزيز التفاعل الثقافي والفني في الحياة اليومية للسكان والزوار.