قصد مقاعد الكنيسة محبو هذه الموسيقى الراقية ومنهم بعض الشباب، الذين لبوا أسوة بالجميع، دعوة مجانية من منظمي الحفلة، لمواكبة ناجي حكيم، الذي ذاع صيته في أوروبا “كعراب” رئيسي للأورغن من حيث العزف، التلحين والتأليف. وغاب كالعادة المسؤولون الحاليون والسابقون في دولتنا العلية. وهم تغاضوا عمداً وعن سابق تصور وتصميم عن الإشارة عبر حساباتهم في “اكس”، إلى أهمية مجيء شخصية مرموقة بمستوى ناجي حكيم إلى لبنان، والذي نجح من خلال عزفه الموسيقي المهيب في فك الحصار عن لبنان المأزوم ولو لوقت محدود جداً.
قصد حكيم الأورغن في الطابق العلوي من الكنيسة. دعا منظمو الحفلة جمهوره، الى متابعته عبر شاشتين وضعتا خصيصاً في أعلى يمين ويسار المذبح. هي فرصة لمتابعة سَير عزفه لموسيقى متنوعة، ضاحكة أحياناً في سكون الصلاة او حزينة أحياناً أخرى كسماء بيروت الكئيبة. استعاد من خلال عزفه، بداياته في صغره، عندما كان يهرب من المدرسة ليقصد المكان نفسه ليعزف على هذه الآلة، التي سكنت عقله وفؤاده، حتى باتت جزءاً لا يتجزأ من حياته.
يحرك حكيم أصابعه على مفاتيح كل نوتة من الأورغن، خالقاً تعاطفاً لا حدود له لدى الجمهور، لا سيما عندما عزف مدخلاً رئيسياً في الأمسية كتحية للعذراء مريم بترتيلة “عليك السلام”. وتعالت الموسيقى في المكان، كأنها رياح تهب علينا مبشرة بمجد مريم وفادينا يسوع المسيح.
حفر حكيم في ذاكرة سامعيه بعض المحطات من بيوغرافيا حياته من خلال الموسيقى في أرجاء الكنيسة. روى على مسمعنا من ذاتيته، من مشوار حياته مروراً بمحطة لموسيقي الأورغن الكلاسيكي، نيكولا دو غريني، من خلال مقطوعة يهيمن فيها إيقاع من مَدّ وجزر موسيقي، أي تارة يضعف الإيقاع نفسه، ثم يعلو مجدداً ليعود منخفضاً كأنه ينذر بعطشنا إلى بصمات روحانية مضيئة لنفوسنا الثكالى للحب مع الله.
ونلمس عبقرية حكيم في سلسلة فرنسية من تأليفه تتضمن إثنتي عشرة “حكاية” بالموسيقى مهداة بتحية منه ومنا إلى فرنسا. فقد ترجم فعلياً عناوين كل حركة إلى محطة موسيقية ألهمت حكيم نفسه لتأليف مادته ممزوجة بنكهات عصور النهضة والباروك والترانيم الغريغورية المقدسة والأغاني الشعبية. كما عرّج على عالم باخ، الذي غلفنا بشعرٍ رنينٍ، متشابك مع أجزاء متتالية من لحنٍ كورالي، ومطرز بزخارف حزينة ولحظات من اليأس التوافقي.
رحلة حكيم في فضاء حياته تكاملت مع محطة لمعلمه في صباه، جان لانغلي، من خلال عزفه لمقطوعة له، وصولاً إلى تخصيص الجمهور بعزف خاص لمقطوعتين من تاليفه، أهدى واحدة منهما للباحثة اللبنانية زينة صالح كيالي، مؤسِّسة “بيت التباريس” المتخصص بالثقافة والفنون في الأشرفية ومعدة بيوغرافيا عن حكيم وهي جزء من سلسلة وجوه موسيقية تروي سير حياة مؤلفين وموسيقيين لبنانيين صادرة عن دار غوتنير الفرنسية.
ناجي حكيم في بيروت لتَسمعه. وهو يعزف لها الأورغن بسهولة، يتكامل مع الآلة نفسها، ويفجر حمماً من جوف الموسيقى الكنسية كأنه يمد يده لنعبر معاً نحو عالم أقل عنفاً، يسكنه السلام الداخلي في جوار الرب وموسيقاه.