لطالما كان الفن انعكاساً للوجود البشري، تفسيراً إبداعياً للحياة نفسها. إنّه ليس مجرّد مهارة، بل تعبير عاطفي وفكري عن التجارب المُعاشة للفنان، وسيلة الإنسان لإضفاء المعنى على العالم من حوله. فمنذ العصور القديمة، كان الفن وسيلة البشر للتواصل والتعبير عن هُويّتهم، مخاوفهم، وآمالهم. سواء من خلال الرسوم الجدارية في الكهوف، أو اللوحات الكلاسيكية، إلى الأفلام السينمائية الحديثة، ظلّ الفن يحمل بصمة المبدعين التي تعكس روحهم ورؤيتهم الفردية.
لكن مع دخولنا أكثر في عصر يُهيمن عليه الذكاء الاصطناعي والاستنساخ الرقمي، نجد أنفسنا عند مفترق طرق؛ هل لا نزال نبتكر ونخلق فنّاً جديداً، أم أنّنا نكتفي بتقليد أنماط فنية موجودة أصلاً؟ هل نحن نتطوّر فعلاً، أم أننا نفقد الإيمان بقدرتنا على رسم المستقبل؟ مع دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى المجال الإبداعي، أصبح التساؤل حول ماهية الفن وشرعيته أكثر إلحاحاً من أيّ وقت مضى. فبينما كان الفن دائماً فعل إنساني بامتياز، تشهد العقود الأخيرة تحوّلات جذرية جعلت الآلات قادرة على إنتاج أعمال تبدو فنية، ولكن هل هي حقاً كذلك؟
أثار صعود الفن الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي جدلاً عميقاً حول طبيعة الإبداع. فالذكاء الاصطناعي، الذي يفتقر إلى العواطف والتجارب الحياتية، يمكنه تقليد الأساليب الفنية بدقة مذهلة. ولكن، هل يمكن اعتبار شيء ما “فناً” إذا كان يفتقر إلى الرؤية الشخصية، والروح، والتجارب الحياتية لمبتكره؟
منذ العصور القديمة، كان الفن وسيلة البشر للتواصل والتعبير عن هُويّتهم، مخاوفهم، وآمالهم
هذا السؤال يثير التساؤلات في مجال الفن والسينما، خاصة بعد موجة صور الأنمي على وسائل التواصل الاجتماعي بأسلوب يُحاكي عمل شركة الرسوم المتحركة اليابانية Studio Ghibli بعد إطلاق OpenAI لمولد الصور الأكثر تطوّراً في آخر تحديث للبرنامج GPT-4o. إنّ هذا الانتشار الواسع للترند وحبّ المستخدمين لإنتاج صورهم به، لا شكّ يدل على التطوّر المذهل لهذه التقنية، لكنه أيضاً يفتح النقاش مجدّداً حول حقوق الطبع والنشر للصور المولّدة بالذكاء الاصطناعي، خاصة في ما يتعلّق بأعمال هاياو ميازاكي. فقد انتشر على نطاق واسع فيديو له يعود لعام 2016، يصف فيه ميازاكي، المؤسّس المُشارك لاستديو جيبلي، الفنّ المُولّد بالذكاء الاصطناعي بأنه “إهانةٌ للحياة نفسها”. يُعرف ميازاكي برسوماته المتحرّكة اليدوية وأسلوبه الدقيق في رسم المشاهد، ويرتبط الفن في أعماله ارتباطاً وثيقاً بالعواطف والأبعاد الفلسفية.
في الفيديو، ورداً على فيديو لشخصية وحشية مُولّدة باستخدام رسائل نصية، قال ميازاكي: “أشعر باشمئزازٍ شديد. إذا كنت ترغب حقاً في صنع أشياء مُرعبة كهذه، يمكنك متابعة ذلك، لكنني لن أرغب أبداً في دمج هذه التقنية في عملي”.
أفلام ميازاكي، مثل “المخطوفة” و”الأميرة مونونوكي”، ليست فقط مُذهلة بصرياً، بل غنية بالعمق العاطفي والثقافي، وتتناول مواضيع مثل الطبيعة، الروحانيات، وإمكانية التكيّف البشرية. هذه الأفلام وجودية للغاية، وتعكس وجهة نظر ميازاكي الخاصة في السياق الثقافي الذي تمّ فيه إنتاجها. في المقابل، فإنّ الفن الناتج عن الذكاء الاصطناعي مُمتع من الناحية الجمالية البصرية، لكنه يفتقر إلى هذه الصلة الشخصية بتجربة الفنان بمحيطه، إنه مجرّد تقليد تقني بدلاً من أن يكون إبداعاً، يلتقط الأنماط السطحية من دون المعنى العاطفي أو الفلسفي الذي يعدّ جزءاً أساسياً من عملية الإبداع الفني.
التطوّرات التكنولوجية، مثل الطباعة والتصوير الفوتوغرافي والفيلم، غيّرت علاقتنا بالفن عبر العصور
هذا القلق في مجال الفن ليس بجديد. كما يجادل فالتر بنيامين في كتابه “العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج التقني”، فإنّ التطوّرات التكنولوجية، مثل الطباعة والتصوير الفوتوغرافي والفيلم، غيّرت علاقتنا بالفن عبر العصور. ويرى بنيامين أنّ هذه الابتكارات جعلت الأعمال الفنية أكثر قابلية للتكرار والوصول، لكنها في المقابل سلبتها “الهالة”، أي التفرّد الذي تمتّعت به في سياقاتها الأصلية. فقد كان الفن في الماضي مُرتبطاً بمكان وزمان محددين، مثل اللوحات الجدارية في الكنائس أو التماثيل في المعابد، لكن مع ظهور تقنيات النسخ، أصبح بالإمكان إعادة إنتاج العمل الفني آلاف المرات، ما جعله أكثر انتشاراً ولكنه في الوقت نفسه قلّل من طابعه الفريد.
اليوم، مع ظهور الذكاء الاصطناعي، يبدو أننا نواجه تطوّراً جديداً لهذا المفهوم. فالذكاء الاصطناعي لا يقوم فقط بنسخ الأعمال الفنية، بل يحاكي الأساليب ويعيد تركيب العناصر المرئية لإنتاج صور تبدو أصلية، لكنها تفتقر إلى التجربة البشرية التي تكسب الفن معناه العاطفي والرمزي. وكما أدى التصوير الفوتوغرافي إلى تساؤلات حول قيمة الرسم التقليدي، فإنّ الذكاء الاصطناعي يطرح تحدياً جديداً؛ إذا بات بإمكان الخوارزميات إنتاج صور مذهلة بصرياً، فما الذي يميّز الفن الذي يصنعه الإنسان؟ هل يكفي أن يكون العمل جميلاً، أم أنّ جوهر الفن يكمن في أصالته، وفي الغاية والمشاعر التي يحملها؟
“هناك شعور متزايد بأننا، باعتبارنا بشراً، نفقد الإيمان بأنفسنا”. يقول ميازاكي. فالتكنولوجيا، رغم قوتها، بدأت تطغى على جوهر ما يجعلنا فريدين؛ قدرتنا على الشعور بعمق، والشغف للإبداع، نعم الشغف ربما الشيء الوحيد الذي لن تستطيع الآلات امتلاكه.
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقلّد التقنيات ولكن لا يمكنه تقليد الصلة الإنسانية
يكمن الخطر ليس في الذكاء الاصطناعي نفسه، بل في استعدادنا للسماح له بإعادة تعريف تعبيرنا الإبداعي. إذا اعتمدنا بشكل مفرط على الأتمتة، فإننّا نخاطر بتقليص الفن إلى مجرّد استنساخ للأنماط الفنية، وهو ما يجرّد الفن من الروح التي تجعله متغيّراً. يقول المؤرخ الفني إرنست غومبريتش في كتابه “قصة الفن”، إنّه “في الحقيقة، لا يوجد شيء اسمه فن. هناك فقط فنانون”. هذا التعريف يشير إلى أنّ الفن ليس كياناً ثابتاً أو مطلقاً، بل هو انعكاس للإبداع البشري المتغيّر باستمرار.
في مجال الرسوم المتحرّكة، يكمن تميّز الأنمي، وخاصة أفلام جيبلي، في قدرتها على نقل العواطف الإنسانية من خلال وسيلة تجمع بين التفوّق الفني والخيال البشري. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقلّد التقنيات ولكن لا يمكنه تقليد هذه الصلة الإنسانية.
على مرّ التاريخ، أدّت فترات الانتكاس في الفنّ والثقافة إلى ثورات في الفكر والإبداع، حيث دفعت الأزمات والمراحل الانتقالية الفنانين والمفكرين إلى إعادة تعريف حدود الإبداع والتعبير الفني. في عصر النهضة، على سبيل المثال، أدى التحوّل في القيم والعلوم إلى ولادة فنون جديدة مُستوحاة من الفكر الإنساني. وكذلك في القرن العشرين، استجابت الحركات الطليعية مثل السريالية والتكعيبية للتحوّلات المجتمعية والتكنولوجية. ربما نحن في مرحلة مشابهة اليوم، حيث يجب أن نستعيد ما يجعل للفن والحياة معنى من خلال احتضان التحديات بدلاً من الخضوع لها.
ما سبق ليس مجرّد تحدٍّ للفنانين، بل للمجتمع ككل. والسؤال ليس ما إذا كنا في نهاية الطريق، بل ما إذا كنا مستعدين لمقاومة الرغبة في استبدال الأصالة بالراحة والكسل. إذا استطعنا الإصرار على الإبداع من مشاعرنا وتجاربنا ورؤانا الخاصة، فلا يزال بإمكاننا تشكيل مستقبل يكون فيه الفن حيّاً.