وُلد عازف الإيقاع والموسيقيّ الفلسطيني محمد كرزون في كنف عائلة تفيض أنغاماً، إذ تشرّبت روح الموسيقى عبر الأجيال، وويقول لـ”العربي الجديد”: “بدأت رحلتي مع الموسيقى في سنّ الرابعة، وكان والدي أستاذي الأول. لم يكن مجرد عازف إيقاع، بل كان مغنياً ومؤسّساً لمدرسة موسيقية. نشأتُ في بيئة يملؤها الصوت والنّغم، وهذا ما منحني دفعة مبكّرة وقوية باتجاه الفن”. هذه البداية الفنية لم تبقَ محصورة في إطارها الجمالي فحسب، إذ ارتبطت مسيرة كرزون بأسئلة عميقة يفرضها الواقع الفلسطيني، وعلى رأسها دور الموسيقى في المقاومة، وفي نقل معاناة الشعب الفلسطيني إلى العالم، لتتحوّل أنغامه إلى وسيلة للتعبير، ونافذة لمخاطبة الوجدان الإنساني.
يرى محمد كرزون أنّ للموسيقى قدرة كبيرة على نقل الرسائل، لكنّها ليست دائماً وسيلة مباشرة للمقاومة، ويوضح: “قد تحمل الموسيقى رسالةً، لكنّ استخدامها أداةً مباشرةً للمقاومة هو مسألة إشكالية؛ فحين أقوم بنشر ريمكس لأغنية وطنية، أو مقطع موسيقيّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يعلّق بعضهم: ليس بهذا الشكل نحرّر الوطن، وهذا يدفعني إلى طرح تساؤلات جوهرية: هل الموسيقى، حقّاً، وسيلة للتحرّر؟” يعترف كرزون بتحفظه على هذا التوصيف، مسلّطاً الضوء على التحديات التي كشف عنها العالم الرقمي، خاصة في السياق العربي: “للأسف، العالم العربي لا يتقبل فكرة الموسيقى أداةً للمقاومة، رغم محاولاتي المستمرة لإبقاء التفاؤل قائماً. لذلك؛ فإن رسالتي لا أوجّهها إلى فلسطين أو العالم العربي، بل أوجهها نحو العالم الغربي، فيظهر كثيرون جهلاً حقيقياً بوجود فلسطين. أسعى إلى الوصول برسالتي إلى من يرون أن هناك شعباً يعيش تحت وطأة الاحتلال والاضطهاد، ويتعرض يومياً لكل أشكال القهر والقسوة والتهجير والقتل، بينما يُحرم من الحرية التي تعيشونها أنتم يومياً”. يقول: “رغم اختلاف وجهات النظر حول دور الموسيقى، لا يمكن إنكار أثرها العاطفي والنفسي، فالموسيقى لغة تخاطب الوجدان وتلامس المشاعر، وبينما يرفض بعضهم التعامل معها وسيلةَ مقاومة مباشرة، فإنها تبقى وسيلة فعّالة في إيصال الرسائل وتوثيق الأحاسيس، والأهم في هذا السياق هو اختيار التوقيت المناسب؛ إذ لا يجوز نشر عمل موسيقيّ في لحظة حزن أو أثناء وقوع مجزرة من دون مراعاة مشاعر الآخرين، فالاحترام واجب، ويجب أن تتماشى الرسالة الموسيقيّة مع وقع اللحظة لا أن تتعداها”.
في السياق الفلسطيني، تقع على عاتق الموسيقيّ مسؤولية كبرى تتمثل في توثيق الألم الجماعي، وحماية الذاكرة من التآكل والنسيان. يتحدث محمد كرزون بشغف عن هذا الدور الحيوي: “الموسيقى تترك أثراً نفسياً وعاطفياً، حتى وإن كان بسيطاً. وهذا الأثر هو ما نراهن عليه على المدى البعيد، تماماً كما لا تزال أغاني سميح شقير ومارسيل خليفة حيّة في وجداننا، نحن اليوم نعمل على مشاريع موسيقية نؤمن بأنها ستبقى وتخلد في المستقبل”. يضيف: “في هذا المسار الفني، نستمد الإلهام من تجارب خالدة، وأغانٍ وطنية رسمت ملامح الألم الفلسطيني بصوت وفنّ صادقَين. هذه الأعمال لا تزال تنبض بالحياة، وتلهم الأجيال، وتُرسّخ صلتهم بالهوية والانتماء، فالتأثير الحقيقي للموسيقى لا يُقاس بما تحدثه في اللحظة الراهنة فحسب، بل بما تخلّفه من أثر دائم في الذاكرة الجمعية. إنها وقودٌ للاستمرار، وأداة مقاومة ثقافية، وتذكير دائم بأننا شعب لا يزال حيّاً، متمسّكاً بصوته وقضيته”.
حين تتحوّل الكلمة غناءً، تصبح أسرع في الحفظ، وأعمق أثراً في النفس؛ فاللحن المُتقَن حين يقترن بكلمة قوية، يمتلك القدرة على صنع المعجزات، وتخليد اللحظات والمواقف في الذاكرة الجمعية. وهذا ما نحتاجه اليوم تحديداً: “أن نحفظ تاريخنا عبر الموسيقى، وأن نوثّق وجعنا وصمودنا بالأغاني، تماماً كما فعل أولئك الذين سبقونا وتركوا لنا إرثاً من النغم والمقاومة”، يقول كرزون: “نحن نريد أن نواصل الطريق، ونعمل ونجتهد، لنترك للأجيال القادمة ما يسمعونه ويحكون عنه، تماماً كما نتحدث نحن اليوم عن الجيل الذي سبقنا؛ فالموسيقى تحفظ الذاكرة، وتحفظ المأساة، وتحفظ الوطن”.
من بين المشاريع التي عمل عليها محمد كرزون أخيراً، تبرز مبادرة “العتبة”، التي كان من المفترض أن تُقدَّم في عروض فنية في مختلف المدن الفلسطينية، مثل رام الله ونابلس وبيت لحم، تحت عنوان: “كان يا ما كان في أرض كنعان”، وضمّت مؤلفات موسيقية أصلية ذات طابع سينمائي، ألّفها بالتعاون مع شقيقه، الموسيقي محمود كرزون. يتابع كرزون قائلاً: “عملنا على هذا المشروع طوال أشهر، غير أن الاحتلال، كما هو الحال دائماً، فرض حضوره الثقيل. قبيل العروض، أُغلقت الطرق، وتقطّعت أوصال المدن، ما حال دون التنقّل والتنظيم. وحتى في يوم العرض المقرّر في رام الله، استُشهد عدد من الشبان، فكان لا بدّ من إلغاء كل شيء احتراماً لدمائهم”. لا يزال المشروع حتى اليوم في طور الانتظار، إلّا أنه يُشكل دليلاً واضحاً على قدرة الموسيقى في أن تكون أرشيفاً حيّاً للقهر الفلسطيني، وأداةً فنية رفيعة لتوثيق الألم الجماعي الذي يعيشه هذا الشعب في تفاصيله اليومية.
يُقيم محمد كرزون حالياً في الولايات المتحدة، حيث يواجه تحديات مضاعفة كونه موسيقياً فلسطينياً يعيش في بيئة غربية، يقول: “هنا، حتى مجرد أن يكون اسمك محمد ومن فلسطين قد يُثير مشكلات. لذلك؛ أحاول أن أكون ذكيّاً في إيصال رسالتي، لا أرتدي الكوفية مثلاً، لكنّني أختار قطعاً من الملابس تحمل رموزاً فلسطينية، توصل الرسالة من دون أن تُعرضني للمنع أو الهجوم”.
رغم هذه التحديات، لا يتوقّف عن العزف، ولا عن تقديم عروضه ومشاريعه الموسيقية. خلال هذا الشهر، يشارك في عدد من الفعاليات المتنوعة التي تتوزع بين ما يخصّ القضية الفلسطينية ومشاريع موسيقية أخرى. ومن أبرز هذه المشاركات، عرض موسيقي كبير يضمّ فنانين من مختلف أنحاء العالم، إلى جانب انخراطه في مشروع ضخم لموسيقى الأفلام بالتعاون مع زملاء من دولة الإمارات، ويجمع هذا المشروع بين الموسيقى الكلاسيكية والمعاصرة، فيقدم جزءاً منه على المسرح مباشرة، فيما ينفذ الجزء الآخر من خلال تسجيلات سينمائية، ما يمنحه طابعاً فنياً مميزاً يمزج بين الأداء الحيّ والبُعد البصري. يشارك أيضاً في فعاليات فنية تقام في نيويورك بتنظيم Arab American Culture، إلى جانب مشاركات في أتلانتا ونيو جيرسي، وجميعها تهدف إلى إبراز الرواية الفلسطينية من خلال الموسيقى.
ورغم انشغاله وتعدّد العروض، يؤكد محمد كرزون أنه يحرص على اختيار الفعاليات التي يشارك فيها بعناية، مفضّلاً تلك التي تُعبّر عن قضيته وتُجسّد هويته الفنية الفلسطينية على العروض التجارية البحتة. يقول في هذا السياق: “الموسيقى بالنسبة لي ليست مجرد مهنة، بل هي مسؤولية ورسالة. ولهذا أختار أن أكرّس وقتي وجهدي لما يخدم قضيتي وهويتي، حتى وإن كان ذلك على حساب انتشاري الفني في الولايات المتحدة”، ويضيف: “الموسيقى قادرة على تخليد المواقف، والحروب، والشهادات المؤلمة والجميلة من تاريخ الشعوب، وقادرة على أن تبقى جزءاً من ذاكرتهم الشفوية لقرون طويلة”.
ورغم ما يواجهه من صعوبات متراكمة، تبدأ من الحصار والحواجز، ولا تنتهي عند الإحباط النفسي وغياب الاستقرار المادي والمعنوي، يرى كرزون في الموسيقى وسيلةً للصمود لا الانتصار، يقول بصراحة مؤلمة: “لا أستطيع حتى أن أحرّر نفسي، لكنّني قادر على إيصال اسمنا إلى العالم، قادر على أن أقول: نحنُ هنا، ومن خلال اللّحن والكلمة، يمكننا أن نثبت حضورنا ونقاوم النسيان”.
بتاريخ: 2025-04-18
من المصدر