أمور كثيرة، نادرة، تتمتّع بخصوصية محلية، تستوقف الزائر لسلطنة عُمان، وأهمها طراز المعمار الأفقي الذي بدأ بالتغيّر منذ سنوات قليلة فقط، إضافة إلى القلاع والحصون، في بلاد بإرث إمبراطوري يعود إلى القرن الخامس عشر، حيث كانت عُمان بالإضافة إلى بريطانيا والبرتغال، جزءًا من مراكز القوى الدولية التي تتنافس على النفوذ البحري في منطقة تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الهندي.
وامتد النفوذ العُماني في القرن التاسع عشر من سلطنة عُمان الحديثة إلى باكستان شرقًا وزنجبار جنوبًا، وكان العُمانيون من سادة البحار في القرون الوسطى، ما أنتج ما يمكن وصفها بالشخصية العُمانية التي تتوزع صفاتها على إرث القلاع الصلبة والحصون من جهة وإرث الماء والبحار من جهة أخرى، في ثنائية تبرز صلابة العُماني وقدرته على تحمّل العزلة (القلعة)، وليونته (الماء) التي تسم شخصيته القادرة على الانفتاح على الآخر وفي الوقت نفسه الحفاظ على خصوصيته.
ومن تجليات هذه الثنائية الدبلوماسية العُمانية التي أرساها العاهل العُماني الراحل، السلطان قابوس بن سعيد، مؤسس عُمان الحديثة، والقائمة على الاندماج مع المحيط وتفكيك أزماته بتكتّم، مع الاحتفاظ للنفس بخيار الارتداد إلى الداخل والاعتصام بالخصوصية المحلية الضاربة في عمق التاريخ عندما يقتضي الأمر.
تأسست الأوركسترا السيمفونية العُمانية عام 1985 باشراف مباشر من السلطان قابوس-غيتي
ومسقط وإن كانت عضوًا في مجلس التعاون الخليجي إلا أنها أكثر دول ذلك التكتّل تفردًا في سياساتها الخارجية، فهي مع دول المجلس لكن ليس ضد إيران، وفي الحالتين تفعل ذلك على طريقتها في التكتّم والنأي بالنفس عن الاستقطاب.
وهي وإن كانت دولة إسلامية وشبه مغلقة لسنوات عديدة، إلا أن ارتباطها بمراكز صنع القرار في الغرب (بريطانيا على وجه الخصوص) ظل ثابتًا ومتواصلًا، وغير محكوم بالحاجة إلى الغرب للدفاع عن السلطنة، كما اُكرهت على ذلك دول جوارها الخليجي.
من كوة في إحدى القلاع يطلّ العُماني على العالم، وثمة مراكب على الشاطئ قبالته، يلجأ إليها ليعرف العالم ويكون جزءًا منه، وفي الحالتين فإنه يظل نفسه، بتلك الابتسامة الصافية التي تقول لك إنه يعرف هدفه وهو السلام مع النفس ومع هذا العالم.
أول أوكسترا في الخليج والثالثة عربيًا
تأسست الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية عام 1985 بإشراف مباشر من السلطان الراحل قابوس بن سعيد الذي عُرفت عنه عنايته بالموسيقى، وهي أول أوركسترا في منطقة الخليج العربي، والثالثة عربيًا بعد أوركسترا القاهرة السيمفونية والفرقة السيمفونية العراقية اللتين تأسستا عام 1959.
الطلاب الأوائل تعلموا الموسيقي في حرم قصر السلطان قابوس بن سعيد-غيتي
وتقدّم مرويات تأسيس الأوركسترا العُمانية عن السلطان الراحل تركيزه على أن تأسيسها لا يعني إهمال أو إغفال التراث الموسيقي العُماني بل ضرورة الحفاظ عليه والعناية به، وقوله إنه لا يفضّل لونًا موسيقيًا على آخر، فهو تعجبه الموسيقى الأندلسية والتركية والإيرانية والكثير من الموسيقى الهندية والإفريقية، وما يعنيه هو تطوير الموسيقى في بلاده، ورفع مستوى الوعي الثقافي لدى شعبه بوجه عام، ومستوى التعليم الموسيقي بوجه خاص.
بدأت المغامرة الكبرى التي أبرزت اختلاف السلطنة عن محيطها الخليجي في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إذ أوكل السلطان الراحل قابوس بن سعيد إلى الحرس السلطاني مهمة تأسيس الأوركسترا، فقامت باختيار مجموعة من هواة الموسيقى العُمانيين الشبّان الذين تلقوا بعد ذلك دورات دراسية مكثفة في الموسيقى داخل البلاد وخارجها.
ولم تكن المهمة سهلة بل اعتمدت منهجية صارمة، حيث قام فريق من الحرس السلطاني بمرافقة مجموعة من مدرسي الموسيقى البريطانيين، بجولة طويلة آنذاك على المدن والقرى العُمانية، للبحث عن المرشحين المناسبين لللانضمام إلى الفرقة وإجراء مقابلات معهم.
مغامرة كبرى في القصر السلطاني
في البداية اختاروا 1300 مرشّح شاب قبل أن ينخفض العدد إلى 250 شابًا، وصولًا إلى 100 شاب منهم فقط تم اختيارهم للبدء بالتدرّب وتعلّم اللغة الإنجليزية ونظريات الموسيقى، خلال الأشهر الستة الأولى من التدريب.
من التراث الموسيقي المحلي انتقلت مسقط الى الإرث الموسيقي العالمي-غيتي
وخضع هؤلاء لتدريبات مكثفة داخل حرم القصر السلطاني. وفي المرويات التي يتداولها العُمانيون أن الطلاب تعوّدوا بعد حضور التدريبات على رؤية السلطان قابوس في انتظارهم خارج قاعات الدراسة، ليتعرّف إلى المستوى الذي بلغوه، حيث كان يتبادل معهم الأحاديث ويُسمعهم عبارات التشجيع والثناء.
كان طاقم المعلمين في بداية تأسيس الأوركسترا من البريطانيين، حيث تم اعتماد المنهج البريطاني في التدريس، وخصوصًا منهج المدارس الملكية البريطانية للموسيقى في بورتلاند بلندن، ما جعل الطلاب العُمانيين يحصلون على شهادات أكاديمية من أفضل المؤسسات الموسيقية في العالم، وهو نظام ما زال معمولًا به إلى أيامنا هذه.
وبعد تأسيس الأوركسترا العُمانية عام 1985، أحيت أوركسترا لندن السيمفونية ثلاث حفلات في قاعة عُمان في فندق قصر البستان التي جُهّزت لهذا الغرض، وظلت المكان المفضّل لعروض الأوركسترا إلى أن اُفتتحت دار الأوبرا عام 2011.
عُمانيات بآلات وترية
وكان أول حفل موسيقي تقدّمه الأوركسترا العُمانية عام 1987 برعاية السلطان الراحل، ومنذ ذلك الوقت قدّمت مئات الحفلات الموسيقية داخل البلاد وخارجها، إضافة إلى حفلات خاصة بضيوف السلطان من الزعماء الأجانب الذين كانوا يُفاجأون بوجود فرقة سيمفونية في مسقط، ويلتفتون إلى السلطان قابوس متسائلين، فيومئ برأسه مؤكدًا أن العرض ليس تسجيلًا بل حي وحقيقي، ويؤديه نفر من شبّان بلاده.
وفي عام 1988 أحيت الأوركسترا حفلها الأول أمام الجمهور، وفي العام نفسه انضم المزيد من الشبان للأوركسترا، من بينهم أول دفعة من الفتيات العُمانيات.
ويقع المقر الرئيسي للأوركسترا السيمفونية في ولاية السيب بمجمع “المقامات”، المأخوذ من التقسيمات الموسيقية العربية. ويحتوي المُجمع أكاديمية تشرف عليها وزارة التربية والتعليم، يتلقّى فيها الطلاب مواد علمية وأدبية وموسيقية باللغة الإنكليزية مثل الرياضيات والعلوم والموسيقى، قبل أن يلتحقوا بالأوركسترا الرئيسية كعضو أوركسترالي.
افتتحت دار الأوبرا العمانية عام 2011 وتستضيف عروضا موسقية من أرجاء العالم-غيتي
وتضم الأوركسترا طاقمًا تعليميًا من عدة جنسيات، حيث تم تحديد مدرس خاص لكل آلة موسيقية، وهناك برامج لتدريب قادة أوركستراليين عُمانيين. حيث تخرج بعضهم قبل سنوات قليلة بدرجة الماجستير من بريطانيا.
ويبلغ عدد عازفي الأوركسترا السيمفونية نحو 80 إلى 85 عازفًا، تشكّل عائلة الآلات الوترية حوالي 60 عازفًا منهم، وينقسم عمل العازفين إلى تشكيلين: “أوركسترا الحجرة” ويتراوح عدد عازفيها بين 10 و40 عازفًا، وتقدم حفلات خاصة، و”المجموعة السيمفونية الكاملة” التي تحيي الحفلات الكبرى.
دار الأوبرا السلطانية
وتأسست “دار الأوبرا السلطانية مسقط” عام 2011، على مساحة نحو 80 ألف متر مربع، وتتكون من 8 طوابق، ويمتدّ المبنى من شمال الموقع إلى جنوبه، ويقطعه رواقان من الأعمدة يمتدان على جانبيه الشرقي والغربي.
تحفة معمارية بطاقة استيعابية تقدر بنحو 1100 مقعد-غيتي
ويتكون مجمع دار الأوبرا من مسرح الحفلات، وقاعة وحدائق رسمية، وسوق ثقافية ومطاعم ومركز للإنتاج الموسيقي والمسرحي.
ويعتبر المبنى تحفة معمارية اسلتهمت المعمار الإسلامي والعُماني برؤية معاصرة، وصممته وبنته شركة ويمبرلي وأليسون تونغ وغو Wimberly, Allison, Tong & Goo ، المعروفة باسم WATG، وهي شركة معمارية عالمية لها مكاتب في لندن وسنغافورة وشنغهاي ولوس أنجلوس ونيويورك ومدن أخرى عبر العالم.
وحصلت الشركة على جائزة الآغا خان للهندسة المعمارية عن فندق شاطئ تانجونج جارا ومركز زوار رانتاو أبانج في ماليزيا، ومن أبرز مشاريعها فندق ديزني لاند في فرنسا، وقصر الإمارات في أبو ظبي، وقصر لشبونة في ماكاو.
وصُمم مبنى دار الأوبرا السلطانية ليكون متعدد الاستعمالات، حيث جُهّز لاستضافة حفلات الأوبرا والعروض الموسيقية والمسرحية بالإضافة إلى المؤتمرات والملتقيات الثقافية.