يحصل أحياناً أن يأخذنا عطر مجهول، أو مشهد عابر، إلى زاوية عزيزة جداً في الذاكرة، فتعود فجأة قريبةً وملموسةً وحاضرةً، على قدر ما كانت ربما بعيدةً وغائبةً، فيعود العصفور الذي رفرف بعيداً، إلى محله المحفوظ له وحده، رغم صعوبة الأمر وفق أغنية “عصفورك لو منك طار” لصاحبتها جوانا ملاح التي تشبه ذلك العطر الجميل والمشهد الغالي، في غيابها وحضورها.
تكشف الفنانة اللبنانية لـ”النهار” الكثير من تفاصيل بُعدها في الماضي، وأشياءً من عودتها، وأيضاً من مشاريع المستقبل، في لقاء بين جدران منزلها التُراثي في وسط بيروت، والذي يُعبّر بمكانه وطرازه التقليدي وسقفه المرتفع وحديقة الياسمين على أسواره، عن الكثير من قيمها وأصالتها في زمن ناطحات السحاب، المرتفعة بلا روح.
أخبرينا عن غيابك أو بمعنى أصح حضورك المتقطع؟
نعم أبعدني المرض الذي لا أوّد الدخول في تفاصيله، لمدة معيّنة، ولكن أشعر أن غيابي جزئي وليس دائماً، لأنني كنت موجودة دائماً، من خلال تقديم الأعمال الهادفة بين الحين والآخر بمواقف واضحة. يجب ان تكون للفن رسالة لأن هذا هو صوت الناس وأنا من الناس. الفن تربى معي منذ طفولتي، منذ كنت في السابعة من عمري وقعت في غرامه، علاقتي مع الناس التي تحبني، وعلاقتي مع الفن لا أستطيع اختصارها أو تفسيرها. لا أستطيع القيام بأي شيء في حياتي إلا وله علاقة بالفن. الفن في جوهره هو نفسه منذ ظهوري في “استديو الفن” حتى اليوم. ما زلت كأنني اليوم أبدأ بالطاقة والايجابية والمسؤولية. الفن بالنسبة إلي ليس مهنة بل هواية أمارسها بشكل احترافي وبشغف. أنا أقاتل من أجل الفن.
لكن الفن تغيّر بين حصولك على الميدالية الذهبية عن استحقاق في “استديو الفن” عام 1993ويومنا الحالي؟
العصر الحالي أصبح زمن المتغيرات بامتياز. كل المفاهيم التي تأسسنا عليها لم تعد موجودة. مع الـ”سوشيل ميديا” والذكاء الاصطناعي، الكلمة لم يعد لها احترامها واللحن فقد الابتكار، كل شخص قد يقرر فجأة أن يصبح فناناً. بالنسبة إلي، أسير في خط مع قلة من الفنانين، أنا لا أتاثر بالموجة، بل أقاتل من أجل الفن الراقي، كفرد في هذا المجتمع، أريد أن أكون مؤثرة من خلال فني. لدي هوس بعملي ، فأقف عند أدق التفاصيل. أنا أحمل مسؤولية فني، مهما تغير واقع الفن لا فرق، فمنذ بدايتي أقدم الفن السهل الممتنع من دون أي تكلّف. هذه قضيتي، أريد تقديم فن تفهمه كل الناس وتردده صغاراً وكباراً مع الحفاظ على قيمته. أقدّم الفن بحب في غنائي، كما أرى نفسي هاوية كتابة، وبدأت قليلًا بالتلحين على غرار أغنية “إنتصر” في زمن العدوان الاسرائيلي، هي من كلماتي وألحاني، بالإضافة إلى أن خبرتي أصبحت تسمح لي بالتدخل في التوزيع حتى.
لا تفكري في المساومة قليلاً في هذا الزمن المتغير؟
لا أفكر في ذلك إطلاقاً. قيمتي تكمن في ما أقدم من محتوى فني. أشعر أن الجمهور يحترم كل ما اقوم به، وهم من بنوا لي هذه الحماية أو السياج، كما ينصحونني بما يجب القيام به كأنهم مسؤولون عن فني وكيفية ظهوري. وهو أمر يجعلني أطير من الفرح. هناك احترام يجمع بيني وبين الجمهور. لدي انتماء لهم وهم كذلك. هناك إلفة بيننا منذ بدايتي حتى اليوم. أشعر برابط صداقة يجمعنا.
هل تنزعجين بسبب مرور وقت من دون حضور فني، وتشعرين بوجوب تعويضه؟
أشعر بتوأمة بيني وبين الناس، أشعر فعلاً كأنني لم أغب. ما بين ذاك الوقت والأن، ما زلت الفنانة نفسها.
أطلقت أخيراً بنجاح أغنية “حبيت الحب”، ما هي الصيغة الحالية في العمل الفني وإنجاز الأغنية؟
يجب المحافظة على الإحساس الذي نشأت منه الأغنية بما في الأمر من التلقائية والعفوية ولكن أيضاً عبر التنفيذ بمستوى عال. الكلمة يجب ألا تكون خادشة او تحمل إيحاءً غير مناسب، ويجب ان يكون هناك ابتكار في اللحن، والتوزيع يكون مشغولاً عليه. مثلاً أغنية “حبيت الحب” عمرها قرابة 13 عاماً، وبسبب الظروف وُضعت في الجارور، ثم عدت وبأات العمل عليها وتحديثها لتتلاءم مع هذا العصر تحت قاعدة الفن الحقيقي.
بعد “حبيت الحب”، هل سننتظر كثيراً لصدور العمل المقبل؟
لا إطلاقاً، اتخذ قراراً بتقديم أعمال على منوال أسرع.
هل تشعرين أن هناك مشروعاً فنياً تطمحين إليه؟
هناك مشروع تكريمي لـ”شادية”، إعادة تقديم أكثر من أغنية من أرشيفها، ليكون اهداءً لروحها. هي نجحت في الفن بشكل استثنائي، في الغناء والتمثيل في السينما والمسرح تألقت، من الصعب ايجاد فنان محبوب من الجميع ولديه هذا الكم من القبول، هكذا هي شادية . أنا نجحت في “استديو الفن” بالميدالية الذهبية عن أغنية لشادية. اليوم تركيزي على فني الخاص، لكن هذا المشروع أتمنى تحقيقه إذ يحتاج إلى تمويل.
بالحديث عن “استديو الفن”، أعلم أن للمخرج الراحل في قلبك مكانة خاصة؟
هذا صحيح، سيمون أسمر عملاق. هو علامة فارقة في حياتنا وأيضاً بالنسبة الى وطننا لبنان، أوجد أجيالاً من الفنانين، من خلال برامج متقنة من دون هفوة. وعمل أيضاً مع الهواة كأنه الأب الروحي لهم، كما حرص دوماً على وجود لجنة تحكيم من أهل الاختصاص. سيمون أسمر فنان بكل ما للكلمة من معنى، الفن يفتقده في رحيله.
هل خُذل قبل مماته؟
نعم، خصوصاً حين تعب على الصعيد الصحي، كان ذلك أن ثمة ما قهره، وأشعره بالخذلان.
لمن تستمعين من الفنانين؟
استمع إلى فيروز، عبد الحليم، شادية، وديع الصافي وأم كلثوم… هذا غذاء روحي بالنسبة إلي، إذ تربيت على فنهم. هم أشخاص لن يتكرروا ومعجزات حقيقية بطاقاتهم…
كيف توّدين اختتام حوارنا؟
بالحديث عن لبنان أجمل بلد في العالم حماه الله، لا بديل لنا منه. وأنا متفائلة بالغد جداً.