لا ينكر عاقل أو واعٍ أو حتى مطلع على كتاب التاريخ الغنائى المصرى أن «عجلة التغيير الموسيقى والتطور» قد بدأت عملها قبل عدة سنوات مع تغير كبير فى الذائقة الموسيقية للمستمع المصرى خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو ما يدلل على أن «عجلة التغيير» تدور بلا أى حسابات لأسماء أو نجوم مرحلة ما، فمن بعد أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وغيرهم من أصحاب مدرسة الأغنية الطويلة المعتمدة كلياً على الشعر والألحان الشرقية الأصيلة والأداء الراقى الممزوج بالإحساس الخاص لكل مطرب، دارت عجلة الزمن والتغيير لتتجه الأغنية إلى شكل أبسط بمجموعة من المطربين الذين مزجوا الأصالة بالتجديد مثل هانى شاكر وعلى الحجار ومحمد الحلو، لتتغير الحالة من جديد لأشكال موسيقية أبسط، وهنا يجب أن أتوقف طويلاً أمام تجربة الفنان محمد منير، الذى لولاه ما غنت كتيبة الجيل التالى له بعدما فتح باباً كبيراً للتغيير بموسيقاه وأغنياته، فى ذلك التوقيت تم استبدال الشعر بما سمى فيما بعد بـ«كلمات الأغنية» التى ربما توارت قوتها قليلاً خلف الألحان الخفيفة والتوزيعات الموسيقية الأكثر تطوراً المستوردة من الغرب، فظهر جيل عمرو دياب ومحمد فؤاد وإيهاب توفيق وهشام عباس وغيرهم من نجوم فترة الثمانينات والتسعينات، وظلت الحالة العامة للأغنية المصرية بهذا الشكل لأكثر من عشرين عاماً.
وجاء جيل الألفية الجديدة يسير تقريباً على نفس الرتم الغنائى للجيل السابق مع الاعتماد بشكل أكبر على الحداثة الموسيقية، فكانت تجارب مهمة فى بداية الألفية لنجوم هذا الجيل أمثال تامر حسنى ومحمد حماقى وغيرهما ممن اعتمدوا بشكل أكبر منهج الاطلاع على الموسيقى العالمية واستقدام الأحدث من بينها لتقديمه فى أعمالهم، ولم يحتفظ من جيل الثمانينات والتسعينات بمكانته تقريباً سوى عمرو دياب -بجانب «منير» المحسوب على الجيل السابق له- فاستمر «دياب» لأكثر من أربعين عاماً هو القمة الأصعب فى الحالة الغنائية المصرية، لم يملك أحد مقوماته، ولم يصل أحد حتى الآن إلى مكانته أو قمته التى صنعها بنفسه، وذلك لأنه كان الأقدر بين أبناء جيله على التعامل مع عجلة التغيير ومسايرتها.
ومنذ عدة سنوات فوجئنا بغزو غنائى من فئة أطلقوا على أنفسهم «مطربى المهرجانات» اجتاح الحالة الغنائية المصرية، واعتقد البعض وقتها أن هذا هو التغيير الحتمى لشكل الأغنية، لكنه توارى سريعاً فى دليل واضح على إصابته بمرض «هشاشة العظام» الذى لم يمكنه من الوقوف على قدميه أمام أى شكل موسيقى آخر قادر على سحب الهيمنة منه، وكان التغيير على يد مجموعة من الشباب محترفى غناء «الراب» و«التراب» -اتفقنا معهم أو اختلفنا عليهم- الذين حجزوا لأنفسهم مكانة قوية لدى السواد الأعظم من جمهور الأغنية وهم الشباب والمراهقون، الذين لم يجدوا أى غضاضة فى الهروب سريعاً من المهرجانات إلى نوع آخر أقرب إليهم فى كلماته وموسيقاه، خاصة مع اقتراب نجوم هذا الجيل من الشباب والمراهقين على جميع المستويات سواء العمرية أو الشكلية أو الاهتمامات الحياتية، هذا التغيير الكبير واحتلال «الراب» لتلك المكانة جعل وجود عدد كبير من المطربين «العاديين» تحت التهديد، وأصبحوا أمام تحدٍّ كبير.
فمن لم يستطع تخطى تلك العقبة والعمل على تجديد ما يقدمه من أشكال موسيقية -ولا أعنى اتجاههم للراب بالتأكيد- إنما العمل على أفكار جديدة من ناحية الكلمات والأشكال الموسيقية، فلسوف يواجه أزمة كبيرة مع عجلة التغيير وربما ينتهى به الحال إلى التراجع واعتباره من «الذكريات الحلوة»، مع التأكيد على وجود عدة تجارب ناجحة لابتعادهم عن الشكل النمطى للأغنية مثل أمير عيد وحمزة نمرة اللذين استطاعا التعامل مع الوضع الجديد والهروب منه إلى منطقة آمنة، لكن الأكيد أن دوران العجلة لن يتوقف، وعلى كل الموجودين التعامل مع الأمر بإيجابية إن أرادوا البقاء سواء من المطربين العاديين أو أصحاب المشروعات الغنائية أو حتى مطربى الراب، فعندما يحين وقت دوران عجلة التغيير بتطور جديد لا يملكون أدوات التعامل معه فتكون النتيجة الحتمية هى التراجع أمام هذا التطور.. فلننتظر.