الحرب التي لاحت في الأفق بين الهند وباكستان، ثم وئدت بفعل ضغوط الحلفاء من كلا الجانبين، ورغم أنها كانت محصورة وانطوت على وسائل عسكرية محدودة، فإن لهيبها –المستقبلي– يهدد بالتصعيد إلى صراع واسع النطاق، قد يهدف إلى تدمير باكستان. ويبدو أن الهند لا تسعى إلى تحقيق النصر فحسب، بل إلى إعادة تعريف الحدود الإقليمية.
على مدى السنوات الثمانين الماضية، عاش العالم في ظل مفهوم “السلام الأمريكي”، الذي كان يهدف في البداية إلى احتواء الإمبراطورية الروسية بالعلم الشيوعي، ثم في وقت لاحق إلى كبح جماح الصين، وتأمين مصادر النفط والطاقة العالمية في الشرق الأوسط. أنشأت الولايات المتحدة، وفرضت النظام الليبرالي الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية، حيث لم تعد –نظريًا– حروب الغزو والتغييرات الإقليمية بالقوة مقبولة. لكن هذا الأمر لم يحدث مطلقًا.
من جهة أخرى، تسعى روسيا، في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، إلى إحياء ماضيها الإمبراطوري. وتتوقف استراتيجيتها على تقسيم الغرب، وتعزيز الانعزالية في الولايات المتحدة، ونشر المشاعر المعادية للغرب على مستوى العالم. إن تماسك النظام الروسي يعتمد على مهمة واحدة: تتعلق بتفكيك الاتحاد الأوروبي واستعادة الأراضي المفقودة بعد عام 1991. إن غزو أوكرانيا ليس مجرد طموح إقليمي، بل هو بمثابة دق ناقوس موت رمزي للنظام الليبرالي الدولي. إذا قبل العالم ضم الأراضي الأوكرانية، وهو ما يحدث فعليًا، عبر الصفقة التي فرضتها الولايات المتحدة على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فهنا بالفعل سيتم إرساء السابقة: يمكن مستقبلاً إعادة رسم الحدود مرة أخرى من خلال الحرب، في أي بقعة من العالم.
وفي الوقت نفسه، يبدو النظام الجديد في الولايات المتحدة في حالة من الارتباك. من انعزالية “أمريكا أولًا”، التي يقود حركتها الرئيس دونالد ترامب، إلى التحركات على النمط الإمبريالي في مناطق عالمية مختلفة، خاصة في بحر الصين، يبدو أن واشنطن أقل التزامًا بتشكيل النظام الدولي الجديد.
ومع بروز ملامح تشكّل العالم المتعدد الأقطاب، قد تصبح الحروب وسيلة طبيعية لإنشاء الدول أو تدميرها، وتغيير الحدود وتوسيع النفوذ. إن عودة الإمبريالية أمر لا لبس فيه، وهذا هو السياق الذي يجب أن ننظر فيه إلى الصراع الهندي الباكستاني.
كلا البلدين وُلدا من انهيار الإمبراطورية البريطانية. “الدول المصطنعة” التي أنشأتها الحدود الموروثة عن الخطوط الاستعمارية، مثل خط “دوراند” The Durand Line وخطة “مونتباتن” Mountbatten Plan، والتي فشلت في فرض احترام الحقائق العرقية واللغوية والدينية المحلية. وبعد الانسحاب البريطاني، أعقب ذلك مجازر وأزمات لاجئين. والآن تعود التوترات القديمة إلى الظهور بكثافة متجددة.
ويعود الصراع الأخير جزئيًا إلى إنهاء الاستعمار البريطاني. هددت أفغانستان جارتها باكستان في البداية بالحرب، بدعم من الهند. والآن بدأت الهند، التي أصبحت أكثر جرأة وقوة، عملًا عسكريًا بهدف ضمني: السيطرة على كشمير، وتدمير باكستان.
وتسعى القومية الهندوسية، بقيادة حركة “بهاراتيا جاناتا”، إلى السيطرة على المنطقة، وإبعاد الأقليات. وبالتالي فإن هذا الصراع ليس جيوسياسيًا فحسب، بل له بعد ديني عميق. الهندوسية تسعى إلى تشكيل إمبراطورية إقليمية جديدة، في ظل رؤية قومية ونزعة وطنية شوفينية.
ومع تراجع النفوذ الأمريكي وتزايد بروز التعددية القطبية (عبر مجموعات اقتصادية مثل “البريكس”، ومجموعة الدول الصناعية السبع، ومجموعة العشرين)، بالإضافة إلى التجمعات السياسية الإقليمية (مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا، ومجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية، ومجموعة دول الأنديز في أمريكا الجنوبية، والاتحاد الإفريقي…)، فإن الصراعات ذات البعد القومي، والتي تسعى لإعادة تشكيل، ورسم معالم المناطق المتنازع عليها في كثير من الجهات، قد تصبح أكثر شيوعًا. وفي الفراغ الذي خلفه “السلام الأمريكي” المتلاشي، أصبحت الحرب مرة أخرى وسيلة لتسوية الحدود، ولإعادة تشكيل واقع جيوسياسي جديد. إن إرث الاستعمار، سواء كان أوروبيًا أو روسيًا أو عثمانيًا، يتحول اليوم إلى صراع مفتوح، مدفوع بالدين والقومية والسعي إلى الأرض.