في إطار الحملة الوطنية التي أطلقها المرصد الوطني للمجتمع المدني، بالتنسيق مع وزارة التربية الوطنية، تعرف المؤسسات التربوية عبر مختلف ولايات الوطن تعبئة شاملة لمجابهة ظاهرة تمزيق الكراريس ورميها في الشوارع مع نهاية الموسم الدراسي. وتأتي هذه الحملة وسط تفاعل إيجابي من الطواقم التربوية وأولياء التلاميذ، ومساعٍ لترسيخ سلوك حضاري يليق بحرمة المدرسة وقدسية الكتاب.
كراريس ممزقة وكتب مرمية
مع نهاية كل سنة دراسية، يتكرر في عدد من ولايات الوطن مشهد مقلق ومؤسف في آنٍ واحد، إذ تتناثر أوراق الكراريس والكتب الممزقة على الطرقات والأرصفة المحاذية للمؤسسات التربوية، في صورة تعكس سلوكًا غير حضاري وتُظهر قدرًا من التهاون في التعامل مع الرموز التعليمية. وهو ما يطرح تساؤلات متزايدة حول أسباب هذا التصرف وسبل معالجته.
ورغم أن الظاهرة ليست وليدة اليوم، فإن اتساع نطاقها عامًا بعد عام جعل منها مصدر قلق حقيقي للمجتمع المدني والسلطات التربوية، وحتى الجهات البيئية، لما تحمله من أبعاد نفسية وتربوية وثقافية تتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الحلول الظرفية والآنية.
تقليد جماعي وسلوك انفعالي
تشير شهادات تربويين ومعطيات ميدانية إلى أن هذه الظاهرة ترتبط أساسًا بطقوس جماعية يمارسها التلاميذ، خاصة في الطورين المتوسط والثانوي، حيث يتحوّل اليوم الأخير من الامتحانات إلى ما يشبه احتفالًا جماعيًا بنهاية الدراسة، يتجلى في تمزيق الكتب والكراريس ورميها في الفضاء العام.
ويقول أحد مديري المدارس: “لاحظنا أن أغلب من يقوم بهذا السلوك هم تلاميذ السنوات الانتقالية. والهدف ليس التخريب بحد ذاته، بل هو تعبير انفعالي عن الفرح، نابع من تقليد جماعي أكثر من كونه فعلًا فرديًا مقصودًا”.
لكن هذه “الاحتفالات” التي تُترجم إلى هدر أدوات الدراسة وتشويه الفضاء العام، لا تمرّ دون أثر، إذ تخلف كميات هائلة من الأوراق، وتُثقل كاهل أعوان النظافة، وتُشوّه المحيط الحضري.
معاناة عمال النظافة
ويصف عامل النظافة “صالح” هذا اليوم بأنه: “أصعب يوم في السنة. نعمل ساعات إضافية لجمع ما خلّفه التلاميذ، وكأن التربية على النظام والنظافة غائبة تمامًا عن مدارسنا”. ويضيف بأسى: “هذا السلوك يحبطنا بشدة، لأنه يُلقي بمجهوداتنا عرض الحائط في لحظات”.
تراجع في العلاقة مع أدوات الدراسة
ويؤكد أولياء ومربّون أن الجيل الحالي فقد الرابط العاطفي مع أدواته الدراسية، على عكس الأجيال السابقة.
ويقول الأستاذ المتقاعد طه مالكي البشير: “في الماضي، كنا نغلف كتبنا ونعتز بها، وكان الكراس مرآة لجدية التلميذ. أما اليوم، فحلّ محل ذلك سلوك استهلاكي مفرط، وتفريط في كل ما هو رمزي وتعليمي”.
ويرى العديد من الأولياء أن هذا التحوّل يعكس ضعفًا في التربية على القيم والرموز، وتراجعًا في دور الأسرة والمدرسة معًا في بناء الوعي التربوي لدى الناشئة.
الحملة الوطنية… بصيص أمل
وفي مواجهة هذه الظاهرة، أُطلقت حملة وطنية واسعة من طرف المرصد الوطني للمجتمع المدني، بالتنسيق مع وزارة التربية الوطنية، مستهدفة جميع أطوار التعليم من الابتدائي إلى الثانوي.
وتهدف الحملة إلى التوعية بأهمية احترام الرموز التربوية، وتشجيع التلاميذ على تسليم الكراريس المستعملة للإدارة بدل تمزيقها.
وقد لاقت الحملة تجاوبًا واسعًا من الطواقم التربوية وأولياء الأمور، حيث خصصت العديد من المؤسسات التربوية فضاءات لجمع الكراريس المستعملة، تمهيدًا لتسليمها إلى المؤسسة الوطنية للاسترجاع التابعة لوزارة البيئة.
ووفقًا للمنظمين، تسعى الحملة إلى غرس سلوك حضاري يعكس وعيًا متجذرًا لدى التلاميذ بقيمة ما تعلموه، ويعيد الاعتبار للكتاب والكراس كرمزين أساسين في المسار التعليمي.
رأي علم النفس: عنف غير مباشر وتفريغ انفعالي
يرى مختصون في علم النفس التربوي أن هذه الظاهرة تمثل شكلًا من أشكال العنف غير المباشر، وتفريغًا انفعاليًا ناتجًا عن تراكم الضغوط الدراسية، في غياب فضاءات تعبير بديلة داخل المؤسسة التعليمية.
وبفضل هذه الحملة، بدأت بعض المؤسسات التربوية في غرس ثقافة جديدة تقوم على احترام الكتاب والكراس، وتحويل نهاية الموسم الدراسي من لحظة “تفريغ انفعالي” إلى محطة تقييم واستعداد لبداية جديدة.
وقد حظيت هذه المبادرة بإشادة واسعة من مختلف الفاعلين التربويين، الذين اعتبروها خطوة في الاتجاه الصحيح، شريطة أن تُدعم عبر برامج مستدامة تنطلق من الأقسام، وتستند إلى شراكة قوية بين الأسرة، والمدرسة، والمجتمع المدني.
فالمدرسة ليست مجرد فضاء للتلقين، بل هي حاضنة للقيم، ويجب أن تُغرس هذه القيم منذ الصغر. فكثيرًا ما يقول كرّاس ممزق على الرصيف أكثر مما تقوله علامات التلميذ على ورقة الامتحان.
تمزيق الكراريس شكل من أشكال العنف المدرسي
وفي تحليله للسلوك من زاوية علم النفس، يرى البروفيسور أحمد قوراية، أستاذ جامعي وخبير في علم النفس، أن ظاهرة تمزيق الكراريس من طرف التلاميذ مع نهاية الموسم الدراسي ليست سلوكًا بريئًا أو مجرد تعبير عفوي عن الفرح، بل هي مؤشر مقلق على اضطراب نفسي وتربوي عميق.
وأوضح قوراية أن هذا السلوك يُعبّر عن رفض غير واعٍ للمدرسة، ورغبة دفينة لدى بعض التلاميذ في “الانتقام” من المنظومة التربوية، بعد شهور من الضغط والاحتكاك بمحيط قد لا يكون صحيًا دائمًا.
وأضاف أن الكراس والكتاب، اللذان كانا في بداية السنة من ممتلكات التلميذ الثمينة، يتحولان فجأة إلى أدوات مرفوضة يُرمى بها في الشارع، في مشهد يعكس انفصالًا عاطفيًا ومعرفيًا خطيرًا عن المدرسة.
واعتبر الخبير أن هذا السلوك يمكن تفسيره نفسيًا بـ”العنف غير المباشر”، حيث يُفرغ التلميذ شحنة الغضب المكبوتة داخله عبر تمزيق أدواته الدراسية، كرد فعل على معاملة قد يكون تعرض لها من طرف معلميه، أو نتيجة شعور مزمن بالضغط وعدم الراحة داخل المؤسسة.
وأشار إلى أن غياب التوجيه النفسي والتربوي داخل المدارس، وتقاعس الجمعيات الناشطة في المجال التربوي، والصمت الذي يرافق الظاهرة عامًا بعد عام، كلها عوامل ساهمت في ترسيخ هذا السلوك كعادة موسمية في أذهان التلاميذ.
وانتقد قوراية ضعف دور الأسرة، وخاصة الأولياء الذين لا يوعّون أبناءهم بقيمة الكراس والكتاب، ولا يحذرونهم من عواقب هذا السلوك غير السوي.
كما حمل المسؤولية أيضًا للمربين الذين – كما قال – “أصابتهم غشاوة تمنعهم من رؤية هذا الانحراف، فلم يوجهوا التلاميذ أو يشرحوا لهم رمزية أدواتهم الدراسية”.
وبخصوص الحلول، دعا البروفيسور قوراية وزارة التربية إلى إدراج درس خاص حول احترام الأدوات المدرسية، يُلقَى في اليوم الأول من كل سنة دراسية، كجزء من استراتيجية طويلة المدى لبناء وعي تربوي لدى التلميذ.
كما شدد على أهمية دور الأخصائيين النفسانيين داخل المؤسسات التعليمية، داعيًا إياهم إلى الاهتمام بالصحة النفسية للتلاميذ ومرافقتهم بانتظام، بدل الاكتفاء بالجانب الإداري.
واقترح الخبير أيضًا تخصيص برامج تلفزيونية ومحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يشارك فيه مؤثرون ومختصون، للحديث عن خطورة الظاهرة وأبعادها النفسية والتربوية.
وختم بالقول: “من المحزن أن نرى أكوام الكتب والكراريس التي رافقت الطفل طيلة السنة الدراسية تُرمى على الأرصفة، بدل أن تُحترم كرمز لما تعلمه واجتهد فيه”.