منى بلفقيه فنانة إماراتية وباحثة في اللغويات، تجمع في تجربتها بين العمق الأكاديمي والحس الإبداعي، حيث تتناول في أعمالها موضوعات الهوية والتراث من خلال تصوير نساء يرتدين البرقع والعباية، على خلفيات تجريدية مذهبة تمنحهن طابعاً أيقونياً.
تحمل منى درجات علمية متعددة في اللغويات التطبيقية، وإدارة الأعمال، والفنون الجميلة، وتشارك بأعمالها في معارض محلية ودولية، مؤكدة أن الفن ليس فقط وسيلة للتعبير، بل شهادة بصرية تحفظ الذاكرة الجماعية، وتعيد تأطير الموروث برؤية معاصرة.
في هذا الحوار الخاص مع صحيفة «البيان»، تأخذنا منى بلفقيه في رحلة بين الذكريات والممارسة الفنية، حيث يتحوّل الخشب المعاد تدويره في أعمالها، إلى شاهدٍ على زمنٍ مضى، وتتحول المرأة العادية إلى رمز بصري يُخلّد قوة الصبر وجمال التفاصيل المغلفة.
وتوضح في الحوار، أنها تبدع لوحاتها بدقة وتفصيل كما لو أن هذه اللوحات في مضامينها «تصيخ الأسماع» إلى أحاديث النساء، ذلك طبقاً لمعلوماتها ومضامينها واتجاهاتها.
كيف يتجلّى التوتر بين التقاليد والحداثة في أعمالكِ؟ وهل ترين أن الفن قادر على لعب دور وسطي في هذا الحوار بين الماضي والحاضر؟
أعبّر عن هذه الثنائية من خلال تجاور واضح بين عناصر تقليدية ووسائط معاصرة. أستخدم الألوان الأحادية لتصوير الشخصيات بدقة وواقعية، في مقابل خلفيات ذهبية مجردة تمنح اللوحة طابعاً حديثاً وروحاً رمزية. هذه المفارقة البصرية تعكس التعايش بين الأجيال، والتوتر بين الأصالة والتطور، دون محو الماضي بل بإعادة تأطيره.
أما الخلفيات المذهبة، فهي ليست مجرد خيار جمالي، بل تضيف بُعداً رمزياً يعكس قيمة الذهب في الثقافة المحلية كمعدن نفيس يرمز للفخر، والكرامة، والندرة. هذا اللون يمنح الشخصية المصوّرة طابعاً أيقونياً، ويرفع من شأن المرأة العادية إلى رمز جدير بالتأمل والتقدير.
ما الذي يدفعكِ لاستخدام خامات غير مألوفة مثل الخشب المعاد تدويره؟ وهل في ذلك موقف فني أم بيئي أيضاً؟
الخامات غير التقليدية، كالأخشاب المعاد تدويرها، تحمل في طياتها قصة حياة سابقة، تماماً مثل الشخصيات التي أرسمها. اختياري لها ليس فقط موقفاً فنياً بل أيضاً بيئياً – هو دعوة لاحترام التاريخ والأثر، وللتفكير في الاستدامة حتى في الممارسة الإبداعية.
الخامة نفسها تحتفظ بذكريات للمكان وللأشخاص الذين تعاطوا معها، خاصة عندما أرسم على أبواب ونوافذ خشبية قديمة. في تلك الحالات، يتحوّل الخشب إلى شاهد على حياة مضت، فيصبح جزءاً من السرد الفني، لا مجرد سطح للرسم.
كيف تؤثر خلفيتكِ الأكاديمية في اللغويات وتحليل الخطاب على طريقة تعاملكِ مع الفن والسرد البصري؟
دراستي للغويات وتحليل الخطاب منحتني أدوات لفهم العمق الثقافي خلف الرموز، ولصياغة رسائل فنية لا تعتمد فقط على الجماليات بل على المعاني المضمّنة. أتعامل مع كل لوحة كأنها نص بصري – لها سرد، وشخصيات، وسياق، وحوار بين الشكل والمضمون، بين المتلقي والموضوع.
المرأة والتراث
المرأة حاضرة بقوة في أعمالكِ، وغالباً ما ترتدي البرقع أو العباية – ما الرسالة التي تسعين لإيصالها من خلال هذا الحضور؟
المرأة في أعمالي ليست مجرد عنصر بصري، بل رمز للقوة، والذاكرة، والديمومة. حضورها بالبرقع والعباية هو احتفاء بالهوية البصرية والثقافية، ورسالة اعتزاز بجيل من النساء كنّ وما زلن العمود الفقري للمجتمع، رغم بساطة حياتهن.
كيف توظفين البرقع والعناصر التراثية في لوحاتكِ لتكون أكثر من مجرد رموز بصرية؟
أتعامل مع البرقع والعناصر التراثية كوسائط رمزية. هي ليست مجرد زينة، بل تمثيل لتجربة حياتية وهوية جمعية، ورمز للدور الجوهري الذي تلعبه أمهاتنا على الرغم من كل شيء. توظيفي لها يأتي بدقة شديدة، أحيكها في اللوحة كما تُحاك في الذاكرة، مع إبراز تفاصيلها من خلال الظل والنور والخامة.
الخلفيات الذهبية والتجريدية تقابل شخصيات نسائية واقعية، هل تمثل هذه المفارقة تأملاً في دور المرأة بين الماضي والحاضر؟
بالتأكيد، هذه المفارقة مدروسة. الذهب في الخلفية يضفي هيبة على المشهد، كأن الشخصيات تنتمي إلى عصر ذهبي يستحق الاحتفاء. هو أيضاً تأمل في القيمة غير المرئية التي كانت تحمِلها المرأة في الحياة اليومية، صانعة، معطاءة، متجذرة. أضعها في إطار بصري حديث لتكون حاضرة اليوم، كما كانت في الأمس، ولكن بشكلٍ معاصر.
هل ترين أن أعمالكِ توثق لتجربة نساء بعينهن، أم أنها تعكس هوية جمعية تمتد عبر الأجيال؟
أعمالي توثق لتجربة نساء بعينهن نعم، لكنهن في ذات الوقت يمثلن هوية جمعية. كل يد في لوحاتي سواء تمسك بأداة طحن، أو تنسج، أو تخيط هي يد لجدة، لأم، لامرأة صامدة في وجه التغيير. الشخصيات مأخوذة من الحياة، لكنها رموز لهوية تتوارثها الأجيال، وتجسّد المرأة الإماراتية والخليجية في أدوارها المتعددة.
العملية الفنية والمستقبل
كيف تبدأين رحلتكِ مع كل عمل فني من البحث إلى التنفيذ؟ وما مدى أهمية التوثيق في ممارستكِ الفنية؟
رحلتي تبدأ دائماً بالبحث: أزور الأماكن، أقابل النساء، ألتقط الصور، وأسجل التفاصيل الصغيرة التي لا تُقال في الكلام. أؤمن أن التوثيق هو العمود الفقري لممارستي الفنية. لا أرسم من خيالٍ بحت، بل من حياةٍ عشتها أو سمعتها. اللوحة هي الترجمة البصرية لهذه الوثائق، بحسٍ فني وشغف إنساني.
ما هي الرؤية الفنية التي تعملين على تطويرها حالياً؟ وهل هناك مشروع مستقبلي أو موضوع جديد تخططين لاستكشافه في أعمالكِ القادمة؟
أعمل حالياً على تعميق التجربة البصرية عبر تطوير الخلفيات لتكون أكثر تجريداً، لخلق حوار أقوى بين الشكل والمضمون. كما أنني مهتمة بشكل خاص باستكشاف الأهزوجة والتاريخ الشفوي كجزء من الهوية الثقافية التي لم تُوثق بصرياً بما يكفي.
أسعى إلى دمج هذه العناصر في أعمالي من خلال التفاعل مع كلمات الأهازيج الشعبية، أو حركات الأداء، أو حتى الإيقاع الصوتي وتحويله إلى لغة تشكيلية.
ومن المشاريع التي أطمح إلى تنفيذها قريباً هو الرسم على أبواب البيوت الإماراتية القديمة، لما تحمله هذه الأبواب من رمزية بصرية وتاريخية. هي ليست مجرد قطعة خشب، بل شاهد حي على التحولات الاجتماعية والعمرانية والثقافية، وأراها منصات فنية تحفظ الإرث التشكيلي والإنساني، وتُعيد ربطنا بعنصر من بيوتنا يحمل بين طبقاته ذاكرة الزمان والمكان.