كانت مقالة نقدية واحدة كفيلة بأن تُعيد فنانًا إلى حساباته، أو تصعد به إلى قمة المجد.
كان النقاد يُمثلون صوت الجمهور المثقف، ويملكون من التأثير ما يجعل الفنان حذرًا، دقيقًا، ومُجتهدًا في اختياراته. آنذاك، لم يكن الإعلام يمارس دور الترويج المجاني، بل دور التوجيه والتصحيح.
تحقيقات الملكية الفنية
لعبت الصحافة الفنية دورًا مهمًا في إثبات الملكيات الفكرية والفنية، من خلال التحقيقات المعمقة، والاستماع للرواة والشهود، ومقارنة الألحان والمراجع، ومساءلة الفنانين علنًا. وقد شهد التاريخ الفني السعودي عددًا من القضايا التي حُسمت شعبيًا بفضل تدخل الصحافة وصرامة أقلام نقادها. ويحفظ لنا أرشيف الصحف مانشيتات حاسمة، كتلك التي كتب فيها: “الفنان عبدالله محمد يثبت بالحقائق والوقائع ملكيته للحن سويعات الأصيل”، حيث كشفت فيها الصحافة كواليس القصة، ومنحت الجمهور بانورامية للحدث.
بل إن قضايا ملكية الأغاني كانت تُفكك بدقة: من الملحن؟ لمن أعطى لحنهُ أولاً؟ ولماذا لم يُسجّل؟ ولماذا غنّاه آخر؟ وأسئلة كثيرة جعلت المشهد الموسيقي مكشوفا للجمهور بكل تحزّباته وصراعاته. وكان مجرد تسجيل مطرب شاب لأغنية قديمة كفيلًا بأن تفتح الصحافة تحقيقًا: هل حصل على إذن؟ من يملك الحق؟ هل غيّر في الكلمات أو اللحن؟ فتُطرح القضية للنقاش، ويُستدعى الجمهور للحكم.
لم تكن الصحافة مجرد وسيط ناقل للأخبار، بل كانت أحيانًا محكمة شبه شعبية، تُفتح فيها ملفات قديمة، وتُستجوب فيها الشخصيات الفنية. ومع أن للصحافة جانبًا ضاغطًا، وقد تُستخدم أحيانًا كوسيلة ابتزاز ناعم أو أداة لاستفزاز الفنانين للتصريح أو الرد، إلا أن دورها الإيجابي يظل أعمق تأثيرًا وأكثر رسوخًا. إذ ساهمت في حفظ الحقوق، وكشف التجاوزات، وضبط معايير الساحة الفنية.
المساءلة والعدالة الفنية
واحدة من أجمل وأهم وظائف الصحافة الفنية في ذلك الزمن، أنها وضعت جميع الفنانين على حدٍ سواء أمام طاولة النقد. الكل يُقيَّم، مهما بلغت نجوميته. فنان شاب أو مطرب كبير، ملحن مخضرم أو شاعر ناشئ، كلهم تُقيَّم أعمالهم بنفس المعايير، ويُحاسبون أمام جمهور واسع، لم يكن ما يُكتب في الصحف الفنية مجرد دعاية، بل مرآة صادقة تعكس الواقع الفني بكل تناقضاته. وكانت هذه العدالة النقدية سببًا في نهوض أسماء عظيمة، واندثار أسماء لم تقوَ على المواجهة أو التطوير.
كان للنقد الموسيقي سلطة تُرهِب الفنانين، لا بمعنى كسرهم، بل بتحفيزهم على الإتقان. من خلال تحليل دقيق لعناصر العمل الغنائي: الكلمة، اللحن، التوزيع، الأداء، اللهجة المستخدمة. وبهذا، أسهم النقاد في تشكيل وعي جماهيري ذكي ومُطالِب، لا يرضى بالقليل ولا يُمرّر الرديء.
في غيابهم ضاعت البوصلة
في السعودية، برز عدد من الصحفيين والنقاد الذين وثقوا البدايات، وكتبوا عن رموز الأغنية المحلية من فنانين وملحنين وشعراء. كثيرٌ من هؤلاء كانوا شهودًا على تطوُّرات الأغنية السعودية، وصنعوا أرشيفًا نقديًا لا يقدر بثمن. لكن مع مرور الزمن، واتساع السوق الموسيقي في ظل التحولات التقنية والانفتاح الكبير، تراجعت قيمة الصحافة الفنية وغاب معها الناقد الموسيقي الحقيقي، الذي يُفكك العمل الغنائي، ويُحلل عناصره، ويُحاور الذائقة، ويؤسّس للوعي. لتُصبِح الساحة مفتوحة على مصراعيها للذوق اللحظي والمديح المجاني، والدعاية المفرطة، والنجاح المبني على «الترند»، لا على القيمة. نُشيد بأغنية ما لأنها انتشرت، لا لأنها متقنة. ونتجاهل أعمالًا راقية تستحق الاهتمام والرعاية. ما نحتاجه ليس فقط ناقدًا يكتب، بل مؤسسة نقدية تؤسس، تُعلّم، تُقيّم، وتوثق.
كذلك، تفتقد الساحة الفنية إلى مؤتمرات سنوية للنقد الموسيقي، تُقام برعاية معتبرة، ويُدعى لها نقاد ومختصون من داخل وخارج المملكة، تكون بمثابة منصات رسمية لمناقشة الاتجاهات والتحديات والمعايير، لانتقاد الرداءة والتقليد، ودفع الفنانين نحو الجمال والابتكار.
استعادة المجد الموسيقي
الصحافة الفنية ليست مجرد وسيلة نقدية، بل أداة نهضة فنية، وإذا أُعيد الاعتبار للنقد الموسيقي داخل منظومة الفن السعودي، فإننا سنشهد جيلًا جديدًا من الفنانين أكثر وعيًا، وأكثر طموحًا، وجمهورًا أكثر ثقافة وانتقائية. أما ترك المشهد دون نقد، فهو بمثابة ترك المسرح بلا جمهور، والمسرح لا يكتمل دون من يراقب، ويُصفق، ويُحاكم.
ليس الغرض من النقد الموسيقي الهدم أو الإقصاء، بل العكس: هو فعل ثقافي راقٍ، يحفظ للفن جودته، ويرفع سقف الطموح، ويُرشد الفنانين والمنتجين، ويُثقف الجماهير.
لذلك، فإن عودة النقد الموسيقي ليست ترفًا، بل ضرورة عاجلة لإنقاذ الذائقة العامة، وإعادة رسم الخريطة الفنية بمعايير متزنة.
نحن بحاجة ماسّة إلى إعادة تمكين الصحافة الفنية والنقد الجاد الذي يتطلب دعمًا مؤسسيًا، ومساحات إعلامية صادقة، وإرادة ثقافية تؤمن أن الفن لا يزدهر بالمجاملات، بل بالنقد، والتحليل، والصدق.
مقارنات النقد الموسيقي
قديما
ـ شكل الوعي الموسيقي وارتقى بالذائقة العامة
ـ رفع معايير الجودة داخل المشهد الغنائي العربي والخليجي
ـ أسس معايير صارمة لتقييم الأغاني والألحان والكلمات والأداءات الغنائية
ـ مثّل صوت الجمهور المثقف وجعل الفنان دقيقا ومجتهدا في الاختيار
ـ أسهم في إثبات الملكيات الفكرية والفنية عبر التحقيقات المعمقة والمقارنة والمساءلة
ـ شكل سلطة تُرهِب الفنانين وتحفزهم على الإتقان
ـ وضع جميع الفنانين على طاولة النقد
حاليا
ـ غاب الدعم المؤسسي
ـ تراجعت قيمة الصحافة الفنية وغاب الناقد الموسيقي الحقيقي
ـ باتت الساحة مفتوحة للذوق اللحظي والمديح المجاني والدعاية المفرطة ونجاح «الترند»
الاحتياجات والمطلوب
ـ مؤسسة نقدية، تؤسس، وتُعلّم، وتُقيّم، وتوثق
ـ مؤتمرات سنوية للنقد الموسيقي تُقام برعاية معتبرة