«ذاكرة البياض».. عندما يوثق الفن سردية الحرب الليبية
القاهرة – بوابة الوسط الجمعة 30 مايو 2025, 12:05 مساء
في معرضها «ذاكرة البياض» توثق الفنانة التشكيلية سعاد الشويهدي جانباً من رحلتها مع الحياة عبر الفن. وفي معرضها المقام أخيراً في دار الفنون بالعاصمة طرابلس، ترسم الشويهدي بفيض وجداني تسلسل الرؤية اللونية منذ اللحظة التي صافحت فيها أناملها الفرشاة، وحتى اللحظة التي تواكب فيها أفكارها تحولات المشهد الليبي الحالي وانغماسه في دوامة الفوضى.
الشويهدي تستعيد في عرضها للوحتها «طبيعة صامتة» المنجزة 1988 أولى إطلالاتها الفنية حيث حالة الهدوء والتفاؤل والسكينة اللونية في تشكيلة العمل الجامعة بين «فاكهة وجرة» محاولة لفهم طبيعة المزج بين المكونات وأثرها النفسي في المتلقي، كما تشكل سؤالاً لدى الفنان عن مدى حضورها في أعمال أخرى وبصيغة مختلفة تأنس إلى التمايز، وهو ما اجتهدت الشويهدي في بثها من خلال لوحات «سمكات» 1999، و«حبل الغسيل» 2001 ، و«حالة حب»2001، حيث تتجه الريشة تدريجيا من الوضوح النسبي إلى التداخل مع حضور فاخم للألوان، ومن موضوعات الطبيعة إلى شواغل الإنسان كما في لوحة «حالة حب» و«أصدقاء الطفولة» ثم نرى تجاوزاً للحالتين في دمج يحتفي بجمالية التجريد عبر تداخل وتجاور يقدم أفق مفتوح للتأويل.
أشباح وأطياف وحروب
ولم تكن الشويهدي بعيدة عن منعطف العام 2011 وارتداداته التي انعكست على الشارع بعد فترة نقاهة قصيرة لتتصاعد رائحة الدخان ويعلو صوت المدافع على حساب مكسب الحرية ويمتزج دخان البارود بالصراخ والنزوح وأزمات انقطاع الكهرباء وشح السيولة وطوابير البنزين، وبالتالي اجتهدت الفنانة في رصد صدى هذه الأزمات فنياً وينعطف معها أسلوب وتقنية الرسم حيث تختفي الألوان ويحل الأبيض والأسود وتتراجع موضوعات الطبيعة وتحضر بقوة الأجساد مشوهة الملامح كما يختفي السكون ورومانسية تجارب البدايات ويصعد في مقابلها صراخ مكتوم وأنفاس تتحسس طريقها في شقوق الجدران.
اللافت في ذاكرة البياض أن الأنثى هي المحور الرئيسي في سنين الجمر، فنرى مثلا في لوحة مجموعة النسوة يلتحفن السواد ولا يظهر عليهن ملامح يفترشن الأرض أمام المصرف في انتظار السيولة وتلك محاكاة لواقع عايشه الليبيون جميعا دون استثناء وكانت المرأة الليبية داخل وسط هذا الخضم تجسد الأم التي فقدت زوجها والأخت التي فقدت أخاها والسيدة المسنة التي تعول أسرة غاب عنها الكفيل ولا منقذ إلا التحاف السماء في انتظار الحصول على مبلغ زهيد للبقاء على قيد الحياة.
وعن مدى تمثل الفنان لواقعه الملتهب تطالعنا لوحات أنجزت 2012 مثل (سايزمك) والتي تعني طبقات الأرض بالمصطلح الجيولوجي فبدل أن يستخرج النفط يخرج في مقابله الجماجم، ونرى مشهداً يستشعر شبح القذائف في لوحة (ترقب) ترينا إنساناً في وضع الجلوس ينتظر المجهول تتشابك يداه مع جسده ويغيب وجهه في العدم مسافراً في الحيرة والقلق، تجاورها لوحة (جنازة الحرب الليبية) 2017، تقف فيها خيالات أجساد بلون أسود منعدمة الملامح تحاول الاستناد على بعضها البعض ويبدو عليها فقدان تحديد سبيل تسلكه، هكذا تفصح مخيلة الفنان عن واقع يغلفه الموت وتزفه الثوابيت.
نقلة واستراحة محارب
مخيلة الفنانة لا تنهل تجربتها التشكيلية من سردية الألوان فقط لكنها تمضي إلى محطة أخرى تأخذ من الخاصية اللونية وتغازل من خلالها بصمات الريشة ألا وهو (الفوتوغراف)، ولكن تبقى مخيلتها تقود العدسة إلى هذا العالم، الذي يفصح بذلك، على أنه مكون أصيل، في شكل الصورة لديها.
– للاطلاع على العدد «497» من جريدة «الوسط».. اضغط هنا
وبذا ارتأت الشويهدي الوقوف في محطة وسط، ظلت هي خط التماس بين المتخيل التشكيلي واللوحة الضوئية، ومثلت بوابة الدخول والخروج، من وإلى الفوتوغراف.
كذلك تستند الجمالية في الصورة وفق رؤيتها إلى عنصر المحاكاة الذي يتجاوز ملامحها الخارجية، إلى المعنى الذي تقدمه، وهو الخطوة الأولى لتحولات اللون، وإعادة تشكيله بتوقيع العدسة، بديلا لبصمة الفـرشاة.
إلا أنها لا تتشبع بمفردات الضوء إلا لتعود بمخزون تشكيلي آخر منحت فيه مخيلتها فرصة استعادة الكثير من الهوامش والخطوط والإحالات النفسية لتذوب معا كما رأيناه في معرضها (ذاكرة البياض). حيث تنتقل فيه الفنانة من الرصد إلى التوثيق والنقد وتتبع تحولات الحياة الليبية من حالة السكون إلى وضع الانفجار.
الجدة وسحر العرافة
من جانب آخر وخارج فضاء ذاكرة البياض تعرفنا الدكتورة فوزية بريون في تقديمها لتجربة الفنانة سعاد الشويهدي ببعض أعمالها مثل لوحتها على غلاف كتاب (سليلات العرافة) الذي أعدته الدكتورة إشراق حامد وقدمته الشاعرة حواء القمودي ويعنى بنماذج من الأدب النسائي الليبي، حاولت الفنانة الاقتراب من مضمون الإصدار بلوحة تقول عنها الدكتورة بريون أنها (مستقاة من مخيلتها ومن استبطانها للشخصية، وبذلك رأت أن تجعل خلفية اللوحة برتقالية اللون ليس لزرقة السماء فيها مكان، وكأنها أرادت أن تصور لحظة معينة من النهار عندما أظهرت الشفق الأرجواني الذي اختبأت في عباءته أسرار ولوج الليل فيه، وهو يحاول كشفها بأشعته المسفوحة قربانا لعودة الشمس من جديد).
وتضيف الدكتورة: جسد العرافة أو طيفها عمدت الفنانة إلى جعله غامض الملامح متوشحاً بالسواد وهو اللون الذي يشير إلى السيادة والسؤدد وإلى الخفاء والسرية كما يرمز إلى الظلام والتستر.
تناولت الدكتورة فوزية أيضا إلى جانب لوحة العرافة ولوحات أخرى بصمة الشويهدي في (الجدة) واعتبرتها أجمل لوحاتها الواقعية التي تصور وجه وقوام وزي جدة وادعة فارقت شبابها في غير حسرة، جالسة في مكان ما ترتدي اللباس التقليدي وعلى ذقنها خط طولي من الوشم الأخضر وفي جبهتها وشم آخر في صورة نجمة خماسية بعينين شبه مغمضتين، ومع أن عنوان اللوحة يعلن عن الشخصية المرسومة فإن وجهها لا يسمح للمشاهد باستكناه أعماقها المليئة بكنوز المحبة والعطف والرحمة، إلا أن طريقة جلوسها وعناقها راحتيها وطأطأة رأسها تفشي بظلال من تجارب حياتها المراوحة بين العسرة واليسر والألم والفرح.
إحدى لوحات الفنانة التشكيلية سعاد الشويهدي. (الإنترنت)
إحدى لوحات الفنانة التشكيلية سعاد الشويهدي. (الإنترنت)
غلاف كتاب سليلات العرافة.