علي عبد الرحمن
منذ اللحظة التي بزغ فيها فنّ السينما أواخر القرن التاسع عشر، بدأت رحلته المتشابكة مع الفنون الأخرى، وكان للفن التشكيلي دور الريادة في هذه المسيرة، ولم يكن ذلك اللقاء بين الفنين ترفاً جمالياً أو تداخلاً عابراً، بل شكّل تفاعلاً حيوياً وعميقاً ساهم في تجاوز السينما لحدود السرد البصري التقليدي، لتغدو أداة تأمل فلسفي وفكري، حيث أصبح التكوين البصري موازياً للكلمة في دلالته، وأحياناً أبلغ منها في التعبير والتأثير.
تُعرف السينما، بحسب توصيف عدد من النقاد، بـ«الفن الجامع»، إذ استلهمت من سائر الفنون تقنياتها ومفرداتها الجمالية، وفي مقدمة هذه الفنون، يبرز الفن التشكيلي بوصفه ركيزة أساسية في بناء المشهد السينمائي، حيث اللون والضوء والكتلة والفراغ تتجاوز كونها عناصر تقنية، لتغدو مفردات تشكيلية تُحيي الصورة السينمائية، وتمنحها عمقاً رمزياً وأبعاداً نفسيّة واجتماعية.
ولم يعُد المشهد مجرد خلفية صامتة، بل تحوّل إلى كائن بصري نابض، يدعو المتلقي إلى قراءة فلسفية تتعدى ظاهر السرد، وتستنبط ما بين التفاصيل من إشارات خفية ومعانٍ مؤثرة.
المدرسة التعبيرية
عند استرجاع بدايات التفاعل بين السينما والفن التشكيلي، تبرز السينما التعبيرية الألمانية كواحدة من أهم المحطات، ففي فيلم «The Cabinet of Dr. Caligari»، الذي صدر عام 1920، يتجلّى الفضاء البصري بزواياه الحادّة، وجدرانه المائلة، وظلاله الكثيفة، كمرآة نفسيّة تعكس توترات داخلية وشروخاً ذهنية.
وقد أشار الناقد الفرنسي «جان-ميشيل فرودون» إلى أن هذا الفيلم أسّس لمفهوم الديكور بوصفه بطلاً مشاركاً، حيث لم يعُد العنصر البصري إطاراً ساكناً، بل عنصراً درامياً يُفصح عن دواخل الشخصية ببلاغة الصورة.
حين يُحمّل الفيلم بُعداً تشكيلياً متقناً، يغدو أقرب إلى معرض فني متحرّك، فكل مشهد يُبنى بتوازن دقيق بين اللون والضوء وحركة الشخصيات، ممّا يمنح كل لقطة بُعداً دلالياً يتجاوز السرد الظاهري. وقد أكّد الناقد الأميركي جوناثان روزنباوم، أن التكوين البصري للفيلم لا يُقاس فقط بجمال الصورة، بل بقدرته على إنتاج رموز ومعانٍ تمتدّ إلى خلفيات فلسفية ونفسية، مما دفع بصناعة السينما لتكريم عناصر مثل الإنتاج الفني، والديكور، وإدارة التصوير، في أرفع محافلها، كجوائز الأوسكار والبافتا.
النظرية والتجربة
– أولاً: البُعد التقني للتشكيل البصري: لا يمكن التطرّق إلى التشكيل السينمائي دون الوقوف على الأدوات التقنية، التي تمكّن المخرج من صياغة لوحته المتحرّكة، فالعدسة السينمائية ليست مجرد أداة توثيق، بل عنصر تشكيلي بحد ذاتها، إذ تُحدث العدسات ذات الزاوية الواسعة، تشويشاً في الأبعاد، بينما تُكثّف العدسات المقرّبة المشهد، مما يخلق إحساساً درامياً ينعكس على المتلقي، أما الإضاءة، فقد أصبحت لغة مستقلّة، كما وصفها المصوّر الإيطالي فيتوريو ستورارو، تُستعمل لخلق التوتر، وإخفاء المعلومات، أو تسليط الضوء على ما بين السطور في السيناريو.
– ثانياً: أبعاد فلسفية في التشكيل السينمائي: ينظر الفيلسوف الفرنسي رولان بارت إلى الصورة السينمائية، بوصفها نصاً بصرياً غنياً بالدلالات، يُكتب بأدوات الضوء والظل واللون، فالمساحات الفارغة ليست مجرد فراغات، بل هندسات شعورية تُعبّر عن الانتظار، الوحدة، أو القلق، بينما تُعبّر الألوان الحادّة عن الانفعالات العنيفة كالخوف أو الغضب.
– ثالثاً: التجارب العربية المعاصرة وتحدّيات التشكيل: في ظل التعدّد الجغرافي والثقافي للوطن العربي، يواجه المخرج العربي تحدّياً في توظيف الفن التشكيلي بشكلٍ يحترم التراث من جهة، ويستجيب لنبض الحداثة من جهة أخرى، ويبرز هنا دور المخرج العربي في استخدام أدوات التشكيل البصري لتقديم أعمال غنيّة المعنى، مترابطة البنية، ومتعدّدة الطبقات، تراعي ذائقة المتلقي دون تفريط في جوهر الرسالة الفنية.

سرد الصحراء
في الخليج العربي، تحديداً ضمن السينما الإماراتية، يبرز اسم المخرج علي مصطفى كأحد الذين وعَوا العلاقة بين الفضاء والهوية، في فيلمه «من ألف إلى باء»، لا تبدو الصحراء فضاءً فارغاً، بل تتحوّل إلى عنصر تشكيلي غنيّ بالرمزية، تُعزَّز عبر ألوان محايدة وهندسة معمارية تنتمي للبيئة. وأشار الناقد البريطاني بيتر برادشو إلى أن الفيلم يستعير من المدرسة الواقعية رموزها، لكنه يضفي عليها حسّاً تشكيلياً يجعل من كل مشهد لوحة ناطقة، مما منحه إشادات نقدية واسعة في المهرجانات الدولية.

ومن أبرز الأسماء التي ارتقت بالصورة إلى مستوى التشكيل الفني، يبرز المخرج المصري يوسف شاهين، الذي لم يكتفِ بسرد القصة، بل أعاد رسمها، كما وصفه الناقد اللبناني إبراهيم العريس، في أفلام مثل «الاختيار»، و«إسكندرية ليه؟»، نلاحظ العناية المفرطة بتوزيع الضوء، اختيار الألوان، استخدام المرايا، وتوزيع الفراغات، مما يجعل كل لقطة تعبيراً تشكيلياً عن المشاعر والتجارب النفسية، وقد كان تأثّره في كبار الفنانين كـ«بيكاسو» و«ماتيس» واضحاً في تجريبه المستمر لإعادة تفكيك الفضاء السينمائي.
وفي «كفرناحوم»، أبدعت المخرجة اللبنانية نادين لبكي، في توظيف التشكيل البصري لتوثيق الألم الاجتماعي، لا بالكلمات، بل بالصورة، فالأزقّة المهجورة، والنفايات المتراكمة، والضوء الشاحب، كلّها أدوات تشكيلية تُعبّر عن هشاشة الواقع. ورأى الناقد الإيطالي روبرتو مورافيا، أن الفيلم يحمل في كل لقطة مزيجاً بين الألم والشعرية، تتجلّى فيه المدينة ككائن حي يعاني، وتتحوّل الصورة إلى شهادة معيشة، وحصد جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، ويُدرّس عالمياً كنموذج رفيع في توظيف التشكيل لأغراض سردية وإنسانية.

لوحة احتجاج
في تجربة فريدة من نوعها، استخدمت المخرجة التونسية كوثر بن هنيّة في فيلم «الرجل الذي باع ظهره»، الجسّد الإنساني كقماشة تشكيلية محمّلة بالرموز. ظهر البطل تحوّل إلى ساحة صراع بين الهوية والاغتراب، بين الفن والسلطة. وقد استعانت بن هنية، بفنانين تشكيليين فعليين لرسم الوشم، الذي تحوّل إلى رمز سردي وفلسفي، مما أكسب الفيلم ترشيحاً لجائزة الأوسكار، وأثار نقاشاً واسعاً في الأوساط الفنية والنقدية حول حدود التداخل بين الفنون.
وفي مراحل متقدّمة، يتجاوز الفن التشكيلي دوره كزينة بصرية، ليتحوّل إلى «بطل صامت»، كما وصفته الناقدة ماجدة موريس، يُحرّك السرد، ويُترجم المعنى الكامن، ويُدير الإيقاع السردي كما تُدار النغمة الموسيقية، فالتشكيل لا يكون مكمّلاً، بل يُشكّل جزءاً عضوياً من بنية الفيلم، يعبّر عن المسكوت عنه، ويحمل الرسائل العميقة التي قد تعجز عنها الكلمة.
ويقول الفنان التشكيلي أحمد شيحة: «مشاركتي في العمل السينمائي لا تنبع من رؤية تزيينية للفضاء الخلفي أو التصميم البصري، بل من إيمان عميق بأن العنصر التشكيلي يُعدّ بُعداً سردياً موازياً، يحمل في صمته دلالة درامية لا تقل أهمية عن الحوار المنطوق، فخلفية المشهد ليست مجرد سطح جمالي، بل تمثيل بصري لحالة الشخصية، تنبض بانفعالاتها وتُكثّف أزمتها الداخلية».
ويؤكد الناقد البحريني طارق الحبار، إن الفن التشكيلي ليس مجرد عنصر جمالي في السينما، بل هو البنية العميقة التي تستند إليها الصورة بوصفها وسيلة تفكير وتأمل، فعندما يتحول التكوين اللوني والإضاءة إلى لغة قائمة بذاتها، فإن الفيلم يتجاوز حدود الحكي، ويغدو نصاً بصرياً مكتملاً يُقرأ بالحس، كما يُحلّل بالعقل. وفي هذا السياق، يمكن القول إن الفن التشكيلي يمنح السينما بُعدها التأويلي، ويمنح المشاهد فرصة حقيقية للمشاركة في إنتاج المعنى.
وتوضح الناقدة الفنية دعاء الخطيب، أنه غالباً ما يتم اختزال الصورة السينمائية في وظيفتها السردية، لكن حين يتداخل الفن التشكيلي في بنية الصورة، يتحول المشهد إلى مساحة تأمل مفتوحة، واللون لا يُستخدم حينها كزينة، بل يصبح شعوراً، والخط لا يُرسم كحدّ، بل كدلالة ولهذا، فإن السينما التي تحتفي بالتشكيل لا تُشاهد فقط، بل تُتذوّق كما تُتذوق اللوحة الفنية بكلّ ما تحمله من انفعال وتجريد.
ويشير المخرج المصري محمد حمدي، إلى أن التاريخ السينمائي يُثبت أن الأعمال الخالدة، هي تلك التي أُنجزت بروح الفنان التشكيلي، فالإيقاع البصري، مثل الخط في اللوحة، يعكس نظرة المخرج للعالم، ويُشكّل رؤيته الجمالية والرمزية. كما أن الفن التشكيلي يمنح السينما سلطتها التعبيرية، وقدرتها على خلق مجاز بصري يمتد إلى أعماق الإدراك النفسي والفكري. ولا غرابة أن يكون كبار السينمائيين في العالم قد درسوا الرسم والتصوير قبل أن يمسكوا بالكاميرا.