في زمن كانت باريس تمر فيه بالحداثة والقلق، اختار فتى منحدر من دماء فرنسية وبيروفية أن يغادر ضجيج المدينة باحثًا عن جوهر الفن في أقاصي الأرض، لم يكن بول جوجان فنانًا عاديًا، بل كان روحًا متمردة حملت ريشته وسافرت بها إلى البحر الكاريبي، وبولينيزيا، وحتى أعماق الذات، وفى ذكرى ميلاده في مثل هذا اليوم 7 يونيو من عام 1848، نستعيد سيرة أحد أعظم رسامي العالم، الذي أثرت تجاربه في تشكيل الطليعة الفنية للقرن العشرين، وألهم أجيالًا من الموهبين.
الطفولة.. من باريس إلى بيرو
وُلد بول جوجان في قلب باريس لعائلة ذات أصول مزدوجة، أب فرنسي صحفي من أورليان، وأم تحمل الدم البيروفي في عروقها، وفي العام نفسه لميلاده، غادرت العائلة إلى بيرو، حيث خطط الأب لإصدار صحيفة جديدة، لكن الأقدار لم تمهله، فتوفي في الطريق.
قضت الأم أربع سنوات في ليما مع طفليها، حيث تشكل خيال الطفل بول على وقع الطقوس اللاتينية والظلال الحارة لأمريكا الجنوبية، قبل أن تعود العائلة إلى فرنسا.
الرحالة الشاب.. البحار الذي رأى العالم
في السابعة عشرة، التحق بول بالبحرية التجارية، ست سنوات قضاها يجوب البحار، يراقب الأفق، ويخزّن صورًا لن تنساها ريشته لاحقًا، وبعد وفاة والدته عام 1867، أوكلت الوصاية عليه لرجل الأعمال الثري جوستاف أروسا، الذي سيكون له الفضل لاحقًا في فتح أبواب الفن أمام بول، وعرفه أيضًا على زوجته المستقبلية، الدنماركية ميتي صوفي جاد.
الفن يولد من السوق.. من سمسار إلى رسام
عاد بول إلى اليابسة وعمل سمسارًا في البورصة، حيث كانت الحياة مريحة ومستقرة، لكن في عام 1873، أشعل الفن في داخله، حين أراه أعمالًا لكاميل كورو وديلاكروا وميليت، وتدريجيًا، بدأ بول يرسم بصحبة زميله إميل شوفينكر، وتم قبول أول لوحة له في المعرض الرسمي، ما فتح له باب التقدير.
خطوات في درب الكبار
في منتصف السبعينيات، تعرف جوجان إلى الفنان بيسارو، الذي تبناه فنيًا، كان بول يكافح لإتقان تقنيات الرسم، لكنه ما لبث أن شارك في المعرض الانطباعي الخامس عام 1880، ثم السادس والسابع، وأمضى إجازاته يرسم مع بيسارو وسيزان، ودخل دوائر النخبة الفنية، مثل ديجا ورينوار ومانيه.
الانهيار المالي.. الخسارة التي فتحت له باب الفن
في عام 1882، انهارت سوق الأسهم الفرنسية، خسر جوجان عمله، لكنه اعتبر الأمر فرصة للرسم كل يوم، وحاول بيع أعماله دون نجاح، وانتقل مع عائلته إلى روان ثم إلى الدنمارك بحثًا عن دعم عائلة زوجته، لكن الرفض الذي قوبل به هناك دفعه للعودة مع ابنه إلى باريس، تاركًا عائلته وراءه.
التمرد الفني.. من بونت آفين إلى جزر المارتينيك
في عام 1886، عرض 19 لوحة ونقشًا خشبيًا في المعرض الانطباعي الثامن، وبدأ تجربة جديدة في صناعة الأواني الخزفية، وسافر إلى بونت آفين في بريتاني بحثًا عن حياة أكثر بساطة.
ثم انطلق مع الرسام تشارلز لافال إلى مارتينيك، عازمًا على العيش مثل الهمجي، وهناك، رسم لوحات مدهشة مثل النباتات الاستوائية وبجانب البحر، متخليًا تدريجيًا عن التقنية الانطباعية.
البدائية والبحث عن الروح
عند عودته إلى فرنسا، بدأ جوجان يتحدث عن أصوله البيروفية كعنصر من عناصر “البدائية”، التي أصبحت محورًا لرؤيته الجمالية، فلقد سئم من الحداثة الأوروبية، وراح يبحث عن الجمال النقي غير الملوث بالحضارة، في جزر بعيدة ولغات غريبة وعوالم لم تعرف الخرائط بعد.
فن لا يموت
توفي بول جوجان في 8 مايو 1903 في جزر ماركيساس ببولينيزيا الفرنسية، بعيدًا عن صخب أوروبا، لكن صدى فنه لم يغادر العالم أبدًا، وعماله أثرت في الحركات الفنية التالية، من التعبيرية إلى السوريالية، وبقي اسمه محفورًا في ذاكرة الفن كرمز للتمرد على القوالب والبحث عن جوهر اللون والحياة.