مقدمة
إن أي نقاش حول المشاركة المدنية يرتكز بوعي أو من دون وعي على نظرية التغيير الاجتماعي، أي على مجموعة من الافتراضات والمقترحات حول ديناميات السلطة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. تستند هذه الورقة إلى علم الاجتماع النقدي الليبرالي التاريخي للتغيير. وهي تفسر التغيير الاجتماعي من خلال تدفق النتائج الناتجة عن الصراعات بين الحكام والقوى الاجتماعية على السيطرة على الدولة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. وتضيف هذه النتائج طبقات إلى التأثير البنيوي لصراعات الماضي التي شكلت بالفعل تكوينات مؤسسات الدولة والنظم الاقتصادية وتكوين القوى الاجتماعية. وتحد هذه التكوينات الحالية، الموروثة من الماضي، من الخيارات المتاحة للفاعلين الاجتماعيين اليوم، وتخلق في الوقت نفسه فرصًا قد يغتنمونها أو لا يغتنمونها. وبالتالي، فإن التغيير الاجتماعي ليس نتيجة للصراع بين الفاعلين فحسب، بل هو أيضًا نتيجة للصراع بينهم وبين التكوينات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الموروثة، والتي تعمل بدورها على ترسيخ هذه التكوينات وإعادة تشكيلها.
من هذا المنظور، لا يمكن فهم ضعف المجتمع المدني المصري – والسبل الممكنة لتقويته – بمجرد النظر إلى خيارات نشطائه، أو بالنظر فقط إلى القمع العسكري والتواطؤ الدولي معه. لا بد من استكشاف أعمق للصراع التاريخي بين الحكام المصريين والقوى الاجتماعية على الدولة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. وتقترح هذه الورقة أن فهم هذا الصراع وأثره المتراكم على العلاقة الحالية بين المجتمع المدني والدولة، يوفر فهمًا أفضل للمسألة المطروحة، وسبلًا أكثر استدامة للمشاركة المدنية.
من الواضح أن تشكيل الدولة في مصر يتسم بترسيخ سلطويتها الاستبدادية. فعلى غرار كل الدول الحديثة التي بنت الدولة الحديثة، استخدم الحكام المصريون مزيجًا من العنف والمحسوبية لإنشاء مؤسسات الدولة، واستخدموها لإخضاع المجتمع وتوجيه جهود التحديث. وبسبب عدم قدرتهم على منازعة هذه السلطة، تشبثت القوى الاجتماعية الضعيفة بالحكام لحماية مصالحها، وأصبحت مع مرور الوقت معتمدة هيكليًا عليهم. وقد استمر هذا النمط من محمد علي إلى عبد الفتاح السيسي، مع استثناء ملحوظ للفترة بين عامي 1850 و1950، عندما سمح مزيج من حماية الملكية الخاصة والاحتلال البريطاني والسياسة الليبرالية بظهور قوى اجتماعية جديدة تنافس على السلطة وتخلق مجتمعًا مدنيًا نابضًا بالحياة. غير أن سلطتها تآكلت تدريجيًا إلى أن انهارت بين عامي 1952 و1955. ومن ثم يمكن للمرء أن يرى في ترسيخ الاستبداد وإضعاف المجتمع المدني الوجه الآخر لعدم تمكين قواه الاجتماعية في مواجهة الحكام. وإذا كانت هذه هي القصة الكاملة، فإن المجتمع المدني سيزدهر عندما تضعف سلطة الحكام مرة أخرى. ومع ذلك، وكما أظهر الربيع العربي بشكل مؤلم، فإن هذا الإضعاف لم يُترجم إلى تقوية المجتمع المدني. وبدلاً من ذلك، أدى ذلك إلى تحولات فوضوية انتهت إلى أشكال مختلفة من الاستبداد، أو إلى انهيار الدولة بشكل واضح.
في هذا المقال، أحاجج بأن هشاشة الدولة – وهو جانب أقل شهرة لكنه لا يقل خطورة عن ذلك في تكوين الدولة المصرية – تجعل هذا الانهيار النتيجة الأكثر احتمالاً للضعف الثوري لسلطة الحكام. ويستند هذا الطرح إلى قراءة لتاريخ الاستبداد المصري ترى فيه أيضًا تاريخًا لتكوين دولة هشة بنيويًا. فقد عنى إضعاف القوى الاجتماعية أن الحكام اكتسبوا سلطة شبه مطلقة. لكنه عنى أيضًا أنه لم يكن بمقدور أي فاعل اجتماعي مهم أن يدفع باتجاه ترشيد مؤسسات الدولة، أو تطوير اقتصاد السوق، أو التوسط في النزاعات الاجتماعية. ونتيجةً لذلك، لم تسقط شبكة المحسوبية التي خدمت الحاكم في البداية كــ”سقالة” لتكوين الدولة – والتي يشار إليها غالبًا باسم “النيوباتريمونيالية”. وبدلًا من ذلك، أصبحت هذه الشبكة هي طريقة عمل مؤسسات الدولة والاقتصاد والصراعات الاجتماعية. وبينما حافظت تلك السقالة – أي النيوباتريمونيالية – على تماسك الدولة، إلا أنها أفرغت مؤسسات الدولة باستمرار، وأدامت الركود الاقتصادي، وعززت التفتت والاستقطاب الاجتماعي. بعبارة أخرى، جعلت هشاشة الدولة دائمة.
وفي دولة هشة هيكليًا كهذه، يصبح المحكومون والحكام أسرى للاستعمار الجديد، الذي بدونه تصبح الدولة مهددة بالانهيار. وفي حين أن لحظة ثورية قد تضعف سلطة الحكام وتفتح الباب أمام عملية دمقرطة محتملة تشجع على المشاركة المدنية، فإن هشاشة الدولة ستجعل على الأرجح مثل هذا الانتقال غير منظم، مع انتكاسات من شأنها أن تعرقل عملية الدمقرطة بالكامل. وفي غياب لحظة ثورية كهذه، سيُحكم على المجتمع المدني بالعمل ضمن القواعد الحالية للنظام السياسي النيوباتريمونيالي، ما يؤدي إلى خسارة مزدوجة: توفير الشرعية للاستبداد دون القدرة على تغيير القواعد، أو توسيع المساحة المتاحة للمشاركة المدنية. ومن هذا المنظور، فإن هشاشة الدولة تشكل عقبة أمام تعزيز المجتمع المدني بقدر ما تشكله السلطة المفرطة للحكام. وتؤدي هشاشة الدولة إلى إدامة الاستبداد، والذي بدوره يعمّق الهشاشة، ما يخلق انزلاق في حلقة مفرغة.
لذلك، يجب أن تتوخى المقاربة الجديدة للمشاركة المدنية طرقاً لمعالجة كلا التحديين في آن واحد: خلق ثقل مضاد لسلطة الحكام، والتصدي لهشاشة الدولة وعكس اتجاها. قد يكون هذا الأمر غير بديهي بالنسبة للكثير من نشطاء المجتمع المدني، الذين غالباً ما يركزون على التحدي الأول وينظرون إلى مرونة الدولة على أنها نتيجة ثانوية للاستبداد. يتعارض هذا المقال مع هذه الحكمة التقليدية، ويجادل بأن بناء المرونة المؤسسية والسوقية هو تكملة ضرورية لبناء السلطة الاجتماعية إذا ما أرادت مصر أن تتحرك نحو الحوكمة الديمقراطي.
أولا – كيف بنى الحكام الاستبداديون دولة هشة هيكليًا
مثل كل بناة الدولة، سعى الحكام المصريون إلى بسط سيادتهم وإخضاع منافسيهم. كان انتصارهم كاملًا، ولكنه كان باهظ الثمن أيضًا. فقد حكموا على الدولة الاستبدادية التي بنوها بالهشاشة الهيكلية التي تجعل الاستبداد ضروريًا لإبقائها قائمة. وفي الوقت نفسه، يديم الاستبداد هشاشة الدولة، ويشكلان معًا دوامة انزلاق قاومت حتى الآن التغيير الإصلاحي والثوري على حد سواء.
1. إخضاع القوى الاجتماعية في مصر
سيرًا على خطى بناة الدولة الأوروبية الحديثة، نجح محمد علي باشا (1805–1848) في هزيمة خصومه وإخضاعهم لإرادته. وفي غضون سنوات قليلة، تمكن من القضاء على قادة مصر العسكريين – المماليك – وكذلك النخب الإدارية والتجارية التقليدية. كما قام بإخضاع الزعماء الدينيين الذين قادوا الثورة الشعبية التي أوصلته إلى السلطة عام 1805. بنى محمد علي هيئات مؤسسية جديدة لتقييم ومراقبة مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما بنى جهازًا قسريًا، بما في ذلك جيشًا وطنيًا قويًا هو الأول من نوعه منذ أكثر من ألف عام، مع تجنيد إجباري – وفي معظم الحالات بالإكراه –. وقاد هذا الجهاز لتحويل الاقتصاد والمجتمع في مصر. حل علي الهيئات المهنية التقليدية، مثل النقابات الحرفية، وكذلك نظام “الالتزام” التقليدي لجمع الضرائب والتسلسلات الهرمية الفلاحية المرتبطة به، واستبدلها بأجهزة المؤسسات المركزية الجديدة. كما استبدل الأشكال التقليدية للملكية واستخدام الأراضي بملكية الدولة التي تديرها شبكة واسعة من المؤسسات البيروقراطية. وأصبح الفلاحون بحكم الأمر الواقع موظفين لدى الدولة، التي كان مسؤولوها يقررون المنتجات التي يجب زراعتها، ويشترون المحصول بالأسعار التي يفرضونها. كما أصبحت الدولة أيضًا رب العمل الرئيسي للصناعات الوليدة والشركات التجارية وخدمات البنية التحتية والإدارة. مدّ علي سيطرة الدولة إلى مجالات اجتماعية لم تكن معروفة حتى الآن، مثل الصحة والتعليم. أما الذين عارضوا علي فقد قُتلوا، مثل قادة المماليك عام 1811، أو نُفيوا، مثل الزعيم الديني الشيخ عمر مكرم، وكذلك عدد غير معروف من الفلاحين والحرفيين والمزارعين الذين لم يتركوا سوى آثار باهتة لمعارضتهم. حاول المهزومون البقاء بعيدًا عن الأذى، إما بالخضوع لإرادة علي، أو بالانسحاب، مثل آلاف الفلاحين والشباب الذين هجروا قراهم لتجنب يد الدولة الثقيلة.
ولكن كان هناك أيضًا منتصرون. كان على محمد علي أن يعتمد على الناس في إدارة مؤسسات الدولة والجيش والشركات والمدارس والمستشفيات وتنفيذ سياساته. وراكم هؤلاء المساعدون الثروة والسلطة تدريجيًا. ولكن على عكس المماليك المقطوعة رؤوسهم والتجار والمزارعين و”الملتزمين” (رجال الضرائب) ورجال الدين والنقابات، كان أفراد النخبة الجديدة يعتمدون كليًا على حظوة الباشا. كما أنهم كانوا مجموعة انتقائية ذات أصول عرقية وثقافية وجغرافية مختلفة، من المصريين الأصليين إلى العثمانيين إلى الأوروبيين. وقد أبقت تركيبة هذه النخبة الجديدة غير المتماسكة إلى حد كبير على تفككها وأضعفت قدرتها للمنافسة على السلطة.
تغير هذا إلى حد ما بعد وفاة محمد علي. فقد أدخل خلفاؤه تغييرات تنظيمية رسّخت تدريجياً حقوق الملكية في الريف وعززت القيادة التجارية والفكرية في المراكز الحضرية. وقد عزز ذلك النخبة الانتقائية التي ولدت من رحم تحديث علي. دفعت الأزمة المالية التي ألحقها حاكم مصر المطلق، الخديوي إسماعيل، جزءًا كبيرًا من هذه النخبة من السكان الأصليين إلى الطعن بسلطته المطلقة في ستينيات القرن التاسع عشر. واستخدمت هذه النخبة المجلس الاستشاري الذي أنشأه إسماعيل عام 1866، بالإضافة إلى نفوذها داخل المؤسسة العسكرية، للمطالبة بسلطات تشريعية، بما في ذلك الرقابة على الميزانية والضرائب. وبعد النجاح الأولي، لم يحالف الحظ هذه النخبة. فقد أثبتت القوة الهيكلية للحاكم أنها أقوى من أصول السلطة غير المؤكدة تحت تصرفهم. فمع إصرار الخديوي الجديد، توفيق، على سلطاته المطلقة، حُسمت الانقسامات الداخلية للنخبة لصالح جناحها العسكري المحلي، وتحولت حركتها الدستورية إلى تمرد مسلح. وهذا بدوره لم يهدد مصالح الخديوي فحسب، بل هدد مصالح قطاعات مهمة من النخبة الأكبر. وقد أدى التدخل البريطاني إلى جانب الخديوي في عام 1882 إلى إنهاء سريع للتمرد المسلح، ومعه أول محاولة لتقاسم السلطة بين حاكم مصر وقواها الاجتماعية منذ الثورة الشعبية عام 1805 التي أوصلت محمد علي إلى السلطة.
شهدت الفترة بين عامي 1919 و1952 أكبر محاولة لتقاسم السلطة من قبل القوى الاجتماعية الناشئة. كان الاحتلال البريطاني لمصر قد أدخل إصلاحات اقتصادية وتشريعية مهمة. وشملت هذه الإصلاحات حماية ملكية الأراضي، وفصل موارد الدولة عن موارد الحكام، وتوحيد السياسات المالية والنقدية وتثبيتها، واعتماد نهج عام لعدم التدخل في الاقتصاد .وقد عززت هذه الإصلاحات، إلى جانب قرن من التحديث الاجتماعي وصعود النزعة القومية، تحالفًا اجتماعيًا بقيادة نخبة مصممة على تحدي الحكم المطلق. وقد تجلى ذلك في انتفاضة جماهيرية في عام 1919 ضد الاحتلال البريطاني والحكم المطلق، ما أدى إلى تأسيس أول حكومة دستورية في مصر عام 1923.
ضمت النخبة الجديدة مصريين أصليين وأتراكًا شركسيين وعثمانيين آخرين استقروا في مصر. وقد أدت التعيينات الإدارية والتعليم وصعود القطاعات التجارية والصناعية إلى تقريب الطبقات العليا من الأعيان المصريين الأصليين – الذين ينحدرون في المقام الأول من المناطق الريفية – تدريجيًا من الطبقات الأكثر رسوخًا من الأتراك الشركس ودمجهم في نهاية المطاف. لكن النخبة المصرية كانت أكبر من هاتين المجموعتين. فقد ضمت مهاجرين أوروبيين استقروا في مصر لعقود من الزمن، لكنهم حافظوا على نمط حياة عالمي وبقوا منفصلين عن المصريين الأصليين وصراعاتهم السياسية. ويمكن تفسير ذلك جزئيًا بالشعور بالتفوق الثقافي، وأحيانًا العرقي؛ ويمكن تفسيره أيضًا من الناحية السياسية: لم تكن هذه المجموعة بحاجة إلى الاندماج في الحياة المصرية، ناهيك عن أن تُنازع الحكام على السلطة. فقد كانت جنسيتهم الأوروبية تحمي مصالحهم بشكل أفضل، حيث كان القناصل الأوروبيون يحمونهم من الولاية القضائية القانونية المصرية (حتى ألغت المعاهدة الأنجلو–مصرية لعام 1937 هذه “الامتيازات”). وحتى بعد ذلك، كان الوجود البريطاني في البلاد ضمانة أفضل لمصالحهم من الاندماج في الحياة المصرية. وكانت النتيجة تشعُّب النخبة الاجتماعية التي أخرجت جزءًا كبيرًا من قوتها من الصراع ضد الحكم المطلق. وفي حين تمكنت النخبة الوطنية المصرية (المكونة من المصريين الأصليين والجماعات العثمانية) من انتزاع تنازلات كبيرة من الحاكم، إلا أن قوتها لم تكن كافية لإجباره على فرض سيطرته وصد السلطات البريطانية والتغلب على النخبة المنافسة لها ذات الأصول الأوروبية. فمن أصل ثلاثة عقود من “الحكم الدستوري”، تمكن حزب الأغلبية – الوفد – من الحكم لأقل من ثماني سنوات.
لم يكن فشل هذه القوى الاجتماعية بسبب ضعفها الهيكلي في مواجهة خصومها فحسب، بل أيضًا بسبب عجزها عن الحفاظ على قيادتها للجماهير العريضة. فخلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، نمت قوة كبار ملاك الأراضي على حساب المجموعات الأخرى داخل هذه النخبة الوطنية. فقد أعاقوا الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي نادت بها قطاعات أخرى من النخبة الوطنية بسبب تحفّظهم وقصر نظرهم. وعُرقلت بشكل منهجي في البرلمان مقترحات تشريعية وسياسية تهدف إلى إصلاحات متواضعة في مجال الأراضي، وتوسيع فرص الحصول على التعليم، والحد من الفقر، وإدخال برامج الحماية الاجتماعية. حتى إن الدبلوماسيين البريطانيين والأمريكيين المحافظين أعربوا عن أسفهم لقصر نظر هذه النخبة. وبوقوع الوفد في قبضة هذه المجموعة، توقف الوفد تدريجيًا عن تمثيل الأغلبية التي جعلته لاعبًا هائلًا في يوم من الأيام. واجتذبت التنظيمات السياسية الأخرى، مثل الإخوان المسلمين وعدد لا يحصى من التنظيمات اليسارية والقومية، الجماهير التي تركها الحزب التقليدي. استمر تآكل سلطة النخبة، دون أن يكتشفه أحد في الغالب، إلى أن أطاح “الضباط الأحرار” الشباب بالملك في تموز (يوليو) 1952 وشرعوا، بسهولة كبيرة، في القضاء على سلطة تلك النخبة الضامرة.
أخضع “الضباط الأحرار” القوى الاجتماعية المصرية لسلطة الدولة بطرق تذكّرنا بمحمد علي. وفي أقل من عقد من الزمن، أعادوا رسم العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المصرية حول مؤسسات الدولة التي وسعوها وأحكموا السيطرة عليها. وبعد أقل من شهرين من انقلابهم، أدخلوا إصلاحًا للأراضي استهدف كبار الملّاك. وأعادوا توزيع ما مجموعه 15% من الأراضي المزروعة، وبحلول عام 1965، قضوا على كبار الملّاك تمامًا، والذين كانوا يشكلون في عام 1952 خُمس إجمالي الأراضي الزراعية .في عام 1957، ضربت موجة من التأميمات المصالح التجارية والمصرفية “للأجانب”، بما في ذلك النخبة العالمية التي عاشت في مصر لعقود. وأعقب هذه الموجة عدد من التشريعات التي قيدت أنشطة القطاع الخاص. في عام 1958، وضع النظام “خطة خمسية” تغطي الفترة من 1960 إلى 1965، والتي تركت مساحة للمشاريع الخاصة التي كان يُفترض أن توفر 55% من إجمالي الاستثمارات لتلك الفترة. ولكن بحلول عام 1961، أمر جمال عبد الناصر – الذي أصبح قائد “الثورة” بلا منازع – بموجة هائلة من التأميمات التي شملت البنوك والتأمين والنقل والمواصلات والبناء والتشييد والتجارة الخارجية وما تبقى من المصانع المملوكة للقطاع الخاص، وصولًا إلى عدد من المتاجر الكبرى والمقاهي والمطاعم .وقضت هذه الموجة على ما تبقى من القوة السياسية لقوى السوق، وهو ما كان – وفقًا لعبد الناصر – هدفًا أساسيًا لعملية التأميم.
لم تقضِ هذه التحولات على سلطة مجموعات النخبة فقط، بل أخضعت أيضًا الفلاحين والعمال وغيرهم من فئات الطبقة الوسطى والدنيا. ومن المؤكد أن الفلاحين تحرروا من سيطرة كبار ملاك الأراضي، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى ما يقرب من العبودية .وارتفعت الملكية الصغيرة إلى حد كبير، وتحسنت مستويات المعيشة مع توسع الخدمات الطبية والتعليمية والاجتماعية في الريف بطرق جديدة. لكن الجيش قيّد الفلاحين بسيطرة الدولة المُحكمة. وأصبحت الدولة، ممثلة في وزارة الزراعة والري، مسؤولة عن جميع جوانب الإنتاج، بدءًا من تحديد المحاصيل إلى توفير البذور والأسمدة والمبيدات والتمويل، وصولًا إلى شراء المحاصيل بالأسعار التي حددتها. كما سيطرت الدولة أيضًا على “التعاونيات” التي كان عددها يزيد على 1700 تعاونية في عام 1952، و”شجعت” الفلاحين على الانضمام إليها. وبحلول عام 1970، كان هناك ثلاثة ملايين فلاح مسجلين في هذه التعاونيات التي تديرها الدولة .عاد الفلاحون المصريون إلى ما يشبه سيطرة محمد علي على أنشطتهم الإنتاجية.
وسار العمال على نفس الطريق. وكما هو الحال مع الفلاحين، سعى النظام الجديد إلى حشد دعم العمال، لكنه كان حريصًا على القضاء على استقلاليتهم. كان أحد القرارات القسرية الأولى التي اتخذها العسكر، بعد أقل من ثلاثة أسابيع من استيلائهم على السلطة، هو إنهاء إضراب عمالي في مصنع كفر الدوار الصناعي، وإعدام اثنين من قادته. وبعد ذلك بشهرين، منعوا النقابات العمالية من عقد مؤتمرها الوطني الأول الذي كان يفترض أن يبشر بتأسيس اتحاد وطني للعمال. وبدلاً من ذلك، أنشأ الجيش اتحادًا عماليًا تديره الدولة، وأصبحت عضويته إجبارية، وعيّن “قائدًا عماليًا” لرئاسته. وبالمثل، بسطت الدولة سيطرتها على التعليم، العلماني والديني على حد سواء. وأصبحت المناهج الدراسية والموظفون والشؤون المالية وغيرها من الأمور التنظيمية لجميع المؤسسات التعليمية على جميع المستويات – من رياض الأطفال إلى الجامعات– في يد وزارة التعليم. كما وضعت المدارس الخاصة تحت سيطرة الدولة أو فقدت ترخيصها. وتم توظيف الخريجين في مؤسسات الدولة أو الشركات التي تديرها الدولة. وينطبق الأمر نفسه على وسائل الإعلام التي تم “تأميمها” ووضعها تحت سيطرة الأجهزة الإدارية للدولة. وبحلول منتصف الستينيات، لم تكن هناك قوة اجتماعية أو مجموعة خارج سيطرة الدولة. في الواقع، لم يعد هناك أي نشاط اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي خارج سيطرة الدولة .
وأصبحت الدولة تعني الحاكم والأجهزة الأمنية الداعمة له، وهي المخابرات العامة والمخابرات الحربية (وكلاهما تحت سيطرة الجيش) وإدارة “أمن الدولة” التابعة لوزارة الداخلية. وكان عبد الناصر هو من أنشأ هذا الجهاز في الخمسينيات من أجل إحكام سيطرته على الجيش، ثم على الدولة ككل. وقد بدأت هذه العملية منذ الأيام الأولى للانقلاب، حيث قام عبد الناصر ببناء جهاز أمني جديد داخل الجيش لتطهير الجيش من منافسيه المحتملين. وفي عام 1954، انتهت المواجهة مع قطاع من الضباط الأحرار بانتصار عبد الناصر، وهو ما ترسّخ مع حرب السويس عام 1956. منحت هزيمة 1967 عبد الناصر فرصة أخرى لطرد منافسيه من الجيش والأجهزة الأمنية. ومنذ ذلك الحين، كان الجيش والأجهزة الأمنية التي انبثقت عنه بمثابة العمود الفقري لـ”الدولة”. وعندما اصطدم أنور السادات الذي خلف عبد الناصر مع رؤساء هذه الأجهزة الأمنية في عام 1970، انتصر عليهم باعتقالهم، لكنه حافظ على سلطة هذه الأجهزة نفسها ووسعها. واستمروا في لعب نفس الدور طوال فترة حكمه وحكم خلفائه .وقد أدخل هؤلاء الخلفاء إجراءات تحرير محدودة، ما أدى إلى ظهور نخب تجارية قوية وثرية. ومع ذلك، وكما ستوضح الأقسام اللاحقة، ظلت هذه المجموعات معتمدة كليًا على الدولة ولم تشكل أبدًا تحديًا كبيرًا لسلطتها.
2. إدامة هشاشة الدولة: السقالات التي لم تسقط أبدًا
تاريخيًا، استخدم جميع الحكام المعاصرين شبكات النيوباتريمونيالية كسقالات لإنشاء مؤسسات الدولة والسيطرة عليها. وفي الأماكن التي اضطر فيها الحكام إلى تقاسم السلطة مع القوى الاجتماعية، طالب هؤلاء بمزيد من الوصول إلى مؤسسات الدولة، واستبدلوا تدريجيًا السقالات النيوباتريمونيالية بقواعد وإجراءات معيارية عززت قدرة هذه المؤسسات على أداء مهامها الوظيفية. كانت هذه هي قصة بناء المؤسسات البريطانية منذ الثورة المجيدة عام 1688، وقصة بناء المؤسسات الفرنسية منذ لويس الرابع، وصولاً إلى التحول المؤسسي في كوريا الجنوبية في أواخر القرن العشرين. استخدم الحكام المصريون نفس السقالات لبناء مؤسسات الدولة الحديثة التي تدير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولأن الحكام نجحوا في سحق القوى الاجتماعية، لم يكن هناك من يهدم السقالات. وبدلًا من معارضة شبكة المحسوبية التي أقامها الحكام، سعت القوى الاجتماعية الضعيفة والتابعة إلى تعميرها. إن ما أطلق عليه ماكس فيبر اسم “السلطانية” – التي عُرفت لاحقًا باسم “النيوباتريمونيالية” أو “النظام الملكي الجديد”– ليس منقولًا من عصور ما قبل الحداثة أو حالة شاذة؛ بل هو أسلوب عمل الدولة المصرية الحديثة. فبينما حافظت على استقرار الدولة إلى حدٍ كبير، إلا أنها قدَّست مؤسساتها وأضعفت نظامها السياسي ووضعت غطاءً على اقتصادها. وبعبارة أخرى، فإن السقالة التي تحافظ على تماسك الدولة – أي النيوباتريمونيالية – هي أيضًا السبب الرئيسي في هشاشتها.
تجويف مؤسسات الدولة
يتبع أسلوب عمل النيوباتريمونيالية نموذجًا بسيطًا إلى حد ما. ففيه يعهد الحاكم إلى أتباعه المخلصين بحقائب رئيسية مثل الأمن والمالية والعدل والتعليم. وبينما يصبح هؤلاء القادة – الوزراء ومن في حكمهم – يستمدون سلطتهم من دعم الحاكم. ويختار الحكام هؤلاء القادة المطيعين بناءً على مزيج من الكفاءة والولاء، لكن الأخير أهم بكثير. فعندما يفشلون في أداء مهامهم ويتسببون في كوارث محرجة، قد يعزلهم الحاكم، ولكن غالبًا ما يكون ذلك مؤقتًا. ومثلهم مثل الأكاديميين المثبتين، يتم نقل القادة المطيعين ذوي الأداء الضعيف إلى أماكن حيث يتسببون بأضرار أقل، ولكن لا يتم فصلهم أبدًا. وإذا خدموا لفترة طويلة بما فيه الكفاية، يمكن تعيينهم في مناصب شرفية، وعادة ما تكون في البرلمانات. ومع ذلك، فإن علامات عدم الولاء تؤدي بسهولة إلى إنهاء مسيرة القادة المطيعين بسهولة، وعادةً ما يكون ذلك دون أي احتمال للعفو عنهم.
ولإدارة “مؤسساتهم”، يحتاج الوزراء إلى وكلائهم المخلصين/المؤهلين الذين بدورهم يوظفون وكلاءهم المخلصين/المؤهلين، وهكذا دواليك. وبالتالي، فإن الهرم الإداري بأكمله يتمحور حول شبكة من الوكلاء والرعاة المترابطين من خلال تدفق الثقة والمكافآت الشخصية. يسيطر الوزراء على حزم من الموارد، بأحجام مختلفة حسب أهمية وزارتهم. وهم يستخدمون هذه الموارد “لإدارة” الوزارة: تنفيذ تعليمات الحاكم وأجهزته الأمنية، ومنع السلوك غير المرغوب فيه من قبل الموظفين، وكذلك تنفيذ مهمة الوزارة، ولو بالحد الأدنى على الأقل. وغالبًا ما يعتمد الوزراء على الموظفين الحاليين، لكنهم سرعان ما يقومون بتغييرهم اعتمادًا على من يحظى بثقتهم ويُظهر الحد الأدنى من الكفاءة. فهم يختارون الوكلاء وأحيانًا رؤساء الأقسام ويعيدون تحضيرهم وفقًا للقاعدة نفسها، وهؤلاء بدورهم يختارون رؤساء الوحدات ويعيدون تحضيرهم وهكذا. هذه عملية ديناميكية؛ فقد تتغير الثقة والمكافآت على حد سواء. لكن التغيرات في الثقة الشخصية والمكافأة المرتبطة بها هي التي تحكم الحياة المؤسسية. فالتقييمات الرسمية عادة ما تكون غير ذات صلة بالموضوع، وهي تقييمات شكلية، حيث يعتبر أداء الجميع “ممتازًا” طالما لم يتسببوا بكارثة وظيفية أو سياسية. وفي الوقت نفسه، فإن الحصول على تقييم “ممتاز” لا يؤهل أي شخص للحصول على مكافأة معينة، فالأخير يتدفق فقط داخل شبكة الثقة–المكافأة. إن كيفية الحصول على ثقة رئيسه هي السؤال الرئيسي الذي يحتاج كل موظف حكومي إلى الإجابة عنه من أجل التقدم في حياته المهنية.
وعندما يحاول الوزراء ذوو العقلية الإصلاحية تجاوز الثقة وترقية الأشخاص بناءً على خبراتهم، يجدون أن هذه المهمة شبه مستحيلة. ففي غياب معايير أداء قابلة للقياس، لا يوجد الكثير مما يمكن الاعتماد عليه لقياس الخبرة بموضوعية. وينتهي الأمر بهؤلاء الوزراء بالاعتماد على انطباعاتهم الشخصية لتحديد من هو “المؤهل”. وتصبح الانطباعات الشخصية شكلاً مختلفًا من أشكال “الثقة الشخصية” التي يكتشفها الموظفون الأذكياء ويستفيدون منها من أجل التقدم في حياتهم المهنية. وفي نهاية المطاف، يعتمد التوظيف والترقية وتنظيم العمل على نفس الشبكة: الثقة والمكافآت (أو عدم الثقة والعقاب/التهميش) تتدفق من الأعلى إلى الأسفل بينما يتدفق الولاء والطاعة إلى الأعلى. وفي نهاية المطاف، يجد كل من يملؤون المؤسسات طرقًا لكسب الرزق والوظيفة ودرجة من الإنجاز، ضمن نفس الشبكة.
لقد نجت الإدارة النيوباتريمونيالية للمؤسسات المصرية من الاضطرابات السياسية والتحولات السياسية والتغييرات الدستورية العميقة. وهذا الصمود ليس من قبيل الصدفة. فمن ناحية أولى، يتوافق أسلوب الإدارة النيوباتريمونيالية بسهولة مع نمط الثقة السائد، والذي يرتكز على العلاقات الشخصية أكثر مما يرتكز على “الثقة العامة” التي يربطها علماء الاجتماع بـ”المجتمعات ذات الثقة العالية”. كما أنه أسلوب إدارة منخفض التكلفة لا يتطلب عمليات تقييم معقدة بتوصيفاتها الوظيفية المفصلة، ومعايير الأداء، والأهداف القابلة للقياس الكمي، وآليات التوظيف والترقية والتحكيم وما إلى ذلك. كما أنه قابل للتكيف: يمكن للحكام بسهولة تعديل درجة تدخلهم في إدارة مؤسسات الدولة وكذلك الأوزان النسبية للولاء والكفاءة في التعيينات والترقيات. ويمكنهم أيضًا السماح بظهور “جزر من الكفاءة” في مؤسسات أو قطاعات معينة، لفترة زمنية يحددونها هم.
ومع ذلك، فإن الإدارة النيوباتريمونيالية تفرّغ المؤسسات وتقوّض فعاليتها، ما يقلل في نهاية المطاف من قدرة الدولة على مواجهة التحديات الجماعية. وتلعب مؤسسات الدولة الحديثة دورًا مهمًا في تعزيز سلطة الدولة: فهي تدير تخصيص الموارد على المستوى الوطني، بهدف تحسينها. كما أنها تراقب مختلف جوانب البيئة المادية والاجتماعية – من جودة التربة إلى جنوح المراهقين – وتقترح طرقًا للتعامل مع التحديات التي تطرحها. كما يقومون بالمراقبة الذاتية أيضًا، ويقترحون طرقًا لتحسين أدائهم والحد من عدم كفاءتهم. كما أنها تنشئ “جماعات المصلحة العامة” داخل الدولة؛ وهم موظفو الخدمة المدنية الذين يقضون حياتهم في الدفاع عن القطاعات التي يعملون فيها، من الصحة العامة إلى المالية إلى السياسة الخارجية. كما تعمل المؤسسات أيضًا على توظيف الكفاءات في خدمة الدولة؛ فكلما قلّت الحواجز الاجتماعية التي تستخدمها، كلما اتسعت شبكتها. فهي تخلق إجراءات تشغيلية معيارية تمكّن الأقل موهبة من إنجاز المهام المعقدة التي لم تكن لتتمكن من إنجازها لولا ذلك. كل هذه المهام هي جزء مما نسميه “قدرة الدولة”؛ أي قدرتها على التدخل في التفاعلات الاجتماعية وتنظيمها.
تقوض الإدارة الاستعمارية الجديدة قدرة الدولة على جميع هذه الحسابات. فهي تبدد الموارد العامة التي يتم تخصيصها على أساس العلاقات الشخصية بدلاً من التحليل الفعال من حيث التكلفة، وغالباً ما يكون التنسيق بين المؤسسات أو القطاعات ضئيلاً (لأن كل مؤسسة مرتبطة بشكل أساسي – وغالباً فقط – بقمة الهرم). كما أنه يضيع معظم أعمال المراقبة التي تقوم بها هذه المؤسسات للبيئات المادية والاجتماعية، حيث إن القرارات المتعلقة بتنظيمها عادة ما يتم اتخاذها في مكان آخر ، في الشبكة غير الرسمية. كما أنه يقلل من قدرة المؤسسات على مراقبة أو تنظيم قطاعاتها، حيث يتم تجاهل الأداء والكفاءة أو عدم مكافأتها أو حتى معاقبتها. وبالنظر إلى عدم وجود معايير موضوعية للأداء، تصبح المراقبة الذاتية أقل احتمالاً، بل وتصبح شكلية في حال تنفيذها. وهذا بدوره يزيد من تحجر المؤسسات. كما أنه يقلل من فاعلية “جماعات المصلحة العامة” داخل الدولة: حيث يصبح موظفو الخدمة المدنية أقل قدرة – وغالبًا ما يكونون أقل اهتمامًا – بالدعوة إلى تغيير السياسات. كما أنه يهدر المواهب، حيث يتم التوظيف في المقام الأول من النسبة الصغيرة المرتبطة بشبكة المحسوبية. كما أنها تقوض قيم وأخلاقيات الخدمة العامة، حيث يدرك الجميع بسرعة مدى ضآلة أهميتها بالنسبة لحياتهم المهنية. والأهم من ذلك كله، فإن إدارة المحسوبية تفرّغ مؤسسات الدولة من محتواها لأنها تنقل عملية صنع القرار إلى الشبكات غير الرسمية، ما يجعلها غير قادرة على اتخاذ القرارات عندما/إذا ما انهارت هذه الشبكات. وقد اتضح ذلك بشكل مؤلم خلال سنوات انتفاضة التحرير (2011–2014).
تجميد الصراعات الاجتماعية
كما أن النزعة الاستعمارية الجديدة هي أسلوب عمل النظام السياسي الذي يفترض أن يدير الصراعات الاجتماعية ويحتويها، مع ما لذلك من أثر موهن لقدرة القوى الاجتماعية على إدارة صراعاتها بشكل سلمي دون اليد الثقيلة للدولة السلطوية.
فمنذ “استقلال مصر” عام 1922، شهدت مصر تكوينات دستورية متعددة، مع اختلاف الأدوار والحقوق والقيود المرتبطة بالسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية والأحزاب السياسية والانتخابات وغيرها. إلا أن هذه الترتيبات الدستورية لم تكن أبدًا العنصر المحدد لكيفية عمل نظامها السياسي. فخلف قشرة الدساتير والقوانين واللوائح تكمن شبكة واسعة من المحسوبية تربط الحاكم وأجهزته الأمنية بالفاعلين الاجتماعيين والفئات الاجتماعية، بما في ذلك تلك الموجودة في “المعارضة”.
فعلى سبيل المثال، بين عامي 1922 و1952، كان يدير الأحزاب السياسية قادة اعتمدوا على رعاة في القصر الملكي أو المفوضية العليا البريطانية. وكان صعود هذه الأحزاب وسقوطها في نهاية المطاف مرتبطًا بقرارات الرعاة أكثر من أي شيء آخر. كما بنى قادة الأحزاب شبكات محسوبية داخل أحزابهم، ولم يفقدوا السيطرة عليها إلا عندما تعثرت هذه الشبكات. كان حزب الوفد، حزب الأغلبية، استثناءً كاشفًا. فخلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كان يمثل ائتلافًا اجتماعيًا تقوده النخب المالكة والتجارية وتدعمه طبقة الفلاحين والطبقات الوسطى الحضرية. وبالاعتماد على هذا التحالف، نازع الحزب بنشاط سلطة كل من الملك والمندوب السامي البريطاني. ومع تفكك هذا التحالف الاجتماعي، أصبح على نحو متزايد جزءًا من نظام المحسوبية، خاصة في الأربعينيات. في كانون الثاني/يناير 1953، حظر الضباط الأحرار جميع الأحزاب السياسية بموجب مرسوم، دون أي مقاومة شعبية، بل على العكس تمامًا. ثم شرعوا بعد ذلك في إنشاء نظام سياسي نيوباتريمونيالي واضح يقوم على حزب سياسي واحد. وكان الحزب الجديد – منظمة التحرير – يدار كأي مؤسسة تنفيذية، حيث يختار الحاكم قادته، ويقرر من يمكنه الانضمام إليه، وما هي المهام التي “يُعهد” إليه بها. وفي مقابل الامتثال، كانت أنواع مختلفة من المكافآت تتدفق من أعلى الهرم إلى طبقاته المتعددة. وفي مناسبتين، قرر عبد الناصر أن هذا الحزب لم يكن يؤدي الغرض منه، فحلّه وأنشأ بديلًا له.
وكذلك فعل السادات. في مارس 1976، قرر “تحرير” النظام السياسي، وبالتالي قسّم الحزب الواحد الذي تديره الدولة إلى ثلاثة: الوسط واليسار واليمين! ومنذ ذلك الحين وحتى عام 2011، استخدم الحكام المحسوبية والمكافآت والعقاب للتحكم في تشكيل الأحزاب وأنشطتها. هذا لا يعني أن قادة الأحزاب السياسية كانوا يعملون كعملاء للنظام، أو أن الحياة السياسية كانت مدبرة بالكامل من قبل الحكام. بل على العكس من ذلك. فقد انتقد قادة المعارضة الحكام والحكومة، وطالبوا بالتغيير السياسي، ونظموا الاحتجاجات، وخاضوا الانتخابات. لكنهم فعلوا كل ذلك تحت أعين الدولة الساهرة وضمن حدود رعايتها. وقد مكّنت شبكة الرعاية الدولة، أي الحاكم وأجهزته الأمنية، من تحديد “هامش الحرية” وإبلاغه إلى قادة المعارضة وإدارة الامتثال والانتهاكات. وغالبًا ما كان تجاوز الخطوط الحمر، ولو عن غير قصد، يؤدي إلى عواقب غير مرغوب فيها. كان القمع، الذي كان حاضرًا دائمًا في الخلفية، متفاوتًا من حيث الشكل والشدة. لكن كقاعدة عامة، كان يُنظر إلى الانتهاكات المتكررة أو غير المنفذة لـ”القواعد” على أنها تحدٍ للحكام، وكان أصحابها يعاقبون بشدة. لذلك ظل قادة المعارضة الفعالون على اتصال مع السلطات واستشارتهم عندما كان يساورهم الشك، وبدا أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنهم من خلالها حماية منظماتهم وأعضائها من القمع. وفي حين كان هؤلاء الأعضاء ينتقدون قادتهم من حين لآخر بتهمة “التواطؤ” و”الزبائنية”، إلا أنهم كانوا يعتمدون في النهاية على علاقاتهم الزبائنية عندما يواجهون مشاكل مع الدولة.
وكان النظام نفسه يحكم العلاقات مع النقابات العمالية والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني. وهنا أيضًا، كان القادة بمثابة قناة بين الدولة وأعضاء منظماتهم: فقد كانوا ينقلون مطالب “القاعدة” للدولة، وينقلون الحدود التي تفرضها الدولة إلى “القاعدة”. وعندما كانت هناك مشكلة – عادةً ما تكون نتيجة لاحتجاج أو إضراب – كانوا يتوسطون باسم “القاعدة” “لإقناع” الدولة بحلها وديًا. وكما هو الحال بالنسبة للأحزاب السياسية، فإن أعضاء النقابات العمالية والنقابات المهنية وغيرها من المنظمات عادة ما يتأسفون على تواطؤ قياداتهم، بينما يستخدمون ذلك لحماية مصالحهم وحل النزاعات مع الدولة. عندما يتولى أشخاص مستقلون مناصب قيادية، عليهم أن يختاروا بسرعة: “التصرف بمسؤولية”، أي الانخراط في شبكة المحسوبية حتى يتمكنوا من إدارة شؤون منظمتهم بنجاح، أو جعل فترة ولايتهم “موقفًا” قصير الأجل ضد قمع الدولة.
يمتد نظام المحسوبية الجديدة ليشمل المواطنين غير المنظمين. فهو يمنحهم إمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية والسلع والتوظيف طالما التزموا بالقواعد. وتتعدد نقاط الدخول التي تربط هؤلاء المواطنين بشبكة المحسوبية التابعة للدولة. فيمكن لرجل من منطقة نائية في صعيد مصر أن يتواصل مع الدولة من خلال علاقاته العائلية وجيرانه ونقابته المهنية وزعيمه الديني وممثله “المنتخب” ورؤسائه في العمل وما إلى ذلك. إذا فشل كل شيء آخر، يمكن لهذا الرجل دائمًا أن يطلق نداءً مباشرًا إلى كرم الحاكم الذي يستجيب أحيانًا بشكل إيجابي في إظهار رعاية استثنائية تجاه رعاياه. يمكن لأولئك الذين يختارون الخروج من الشبكة أن يعيشوا بهدوء على هامش المجتمع، طالما أنهم لا يفتعلون مشاكل أو يحتاجون إلى مساعدة. ولكن عندما يفعلون ذلك، عليهم أن يلجؤوا إلى شبكة النيوباتريمونيال. وفي نهاية المطاف، فإن عقودًا من القمع والمحسوبية المعايرة تعلم جميع الفاعلين الاجتماعيين والمجموعات التمييز بين السلوك “الآمن” والسلوك “الخطير”. وينتهي الأمر بالجميع إلى استيعاب قواعد اللعبة السياسية وتحويلها إلى قواعد للسلوك الحكيم.
وعلى مدى أكثر من قرن، وفرت شبكة المحسوبية آلية فعالة للحفاظ على الاستقرار السياسي. وعلى غرار إدارة مؤسسات الدولة، وفرت للحكام والمحكومين وسيلة قابلة للتكيف ومنخفضة التكلفة وقليلة الصيانة لضمان تمثيل المصالح المتنافسة، وإن كان ذلك بشكل غير كامل. كما مكّنهم أيضًا من الحفاظ على التماسك السياسي والتواصل الاجتماعي وحل النزاعات بشكل سلمي إلى حد كبير، وكلها مهام مهمة لأي نظام سياسي.
ومع ذلك، فقد دمر هذا النظام النيوباتريمونيالي السياسة كآلية لحل النزاعات الاجتماعية أو إدارتها. في البداية، عزز هذا النظام فهمًا رمزيًا للسياسة، حيث أصبح التشدد علامة على القوة، والتسوية علامة على الهزيمة. وهذه هي نتيجة نقل عملية عقد الصفقات السياسية من المجال العام – المؤسسات – إلى الشبكة غير الرسمية. وبالتالي، فقد قسمت السياسة إلى فئتين؛ الأولى هي الخطاب العام، بمواقفه المبدئية المتطرفة التي لا يمكن أن تصبح جزءًا من عملية صنع السياسات. والثانية هي عقد الصفقات، وهي سرية ومقتصرة على عدد قليل من اللاعبين، وترتبط إلى حد كبير بالخضوع لسلطة الدولة.
وأصبح الخطاب المتطرف علامة على النزاهة، وأصبحت التسوية علامة على الخضوع أو الخيانة. وهذا يعني أيضًا أن اللاعبين لم يكونوا يعقدون صفقات في ما بينهم في كثير من الأحيان، إذ كان كل منهم بحاجة إلى الدولة أكثر من غيره. كل ذلك أعطى التسوية سمعة سيئة، وثبط الاستثمار في تطوير مهارات التفاوض وعقد الصفقات. وهذا يعني أيضًا عدم الاهتمام بدمج المصالح المتضاربة بين الفئات الاجتماعية والتوفيق بينها، ما ساهم في تجميد الصراعات الاجتماعية والاستقطاب. في هذا المناخ، تميل المطالب السياسية للانجراف إلى الأحلام الطوباوية، بدلًا من التركيز على أهداف قابلة للتحقيق.
وهذا يعني أيضًا ضعف الحافز لدى الأطراف الاجتماعية الفاعلة لصياغة بدائل للسياسة العامة، إذ لا يوجد أي توقع بأن تشكل هذه الأطراف حكومات. وبدلًا من ذلك، يطلبون من الدولة أن تحقق لهم مطالبهم، دون اهتمام كبير بكيفية عمل صناعة السياسات أو قيودها. وبدلاً من التفكير في الموارد المتاحة، والتكاليف البديلة، والضغوط المتنافسة، والخيارات العملية، يطور الفاعلون الاجتماعيون توقعات غير واقعية حول قدرة الدولة على توزيع الثروة والسلع والخدمات. ولا ينبغي أن يكون هذا الأمر مفاجئًا. فالنظام الأبوي يغذي النظام الأبوي: يستوعب المحكومون شخصية الحاكم باعتباره “معطياً”، “رب الأسرة”، وهو المصطلح الذي استخدمه السادات لوصف نفسه. وكأطفال، فإنهم يتوقعون من الحاكم أن يلبي احتياجاتهم دون أن ينتبهوا إلى كيفية قيامه بذلك. ولأن السياسة قد انفصلت عن التسوية وعن صنع السياسات واقتصرت على الطوباوية، فإن كل طرف اجتماعي يرسم حلمه بطريقة كلية. فبالنسبة للإسلاميين، ستصبح مصر إسلامية بالكامل، مع إعادة تثقيف جميع اللاعبين الآخرين أو تقليصهم إلى الهامش. وبالنسبة لليبراليين، ستصبح مصر ليبرالية بالكامل، مع إعادة تثقيف الآخرين أو تقليصهم إلى الهامش، وهكذا. وفي نهاية المطاف، يصبح الحاكم – وأجهزته الأمنية – هو من يحمي عمليًا هذه الأطراف الاجتماعية من أحلام بعضهم البعض الطوباوية. وإذا ما تراجعت يد الدولة الاستبدادية الثقيلة، يجد هؤلاء الفاعلون الاجتماعيون أنفسهم وجهًا لوجه مع بعضهم البعض، دون مهارات أو عادات سياسية يحتاجونها لإدارة أحلامهم المتصادمة. وبعبارة أخرى، يجدون أنفسهم بلا نظام سياسي، ما لم أو إلى أن يعيد حاكم جديد فرض سيطرته النيوباتريمونيالية.
حماية الركود الاقتصادي
منذ استيلاء الدولة على الإنتاج في الخمسينيات من القرن الماضي، أدار حكامها الإنتاج كامتداد لمؤسسات الدولة. والواقع أن إدارة “القطاع العام”، كما أصبحت تُعرف الوحدات الاقتصادية التي تديرها الدولة، هي مثال نموذجي على النزعة النيوباتريمونيالية. وكما كان الحال بالنسبة للخدمة المدنية، اختار الحكام وأجهزتهم الأمنية مديري “الشركات العامة” على أساس الثقة الشخصية في ولائهم، وبدرجات متفاوتة، في قدراتهم. وقد سعى المديرون الموثوق بهم إلى جعل شركاتهم مفيدة للحكام، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية – بما في ذلك، عند الضرورة، عن طريق تحويل الموارد إلى الاستخدام الشخصي. كما أنهم أبقوا الشركات تحت السيطرة، ومنعوا حدوث أي مشاكل متعلقة بالعمالة أو أي أزمات قد تحرج النظام. وفي الوقت نفسه، استخدم الحكام تلك الشركات كمجمع للمكافآت. فقد ملأوها بالخريجين الجدد، الذين كان معظمهم سيصبحون عاطلين عن العمل – بالنظر إلى حجم الاقتصاد. وقاموا بتوزيع أجزاء من ميزانياتها – كـ”أرباح” و”حوافز” وما شابه ذلك – على العمال والموظفين الذين لولاهم لكانوا يتقاضون أجورًا أقل من اللازم. واستخدموا هذه الشركات كخطط تقاعد مربحة لضباط الجيش والشرطة. كما قاموا أيضًا بتخفيض أسعار منتجاتهم كجزء من استراتيجيتهم لشراء الأغلبية الفقيرة. ويشكل ضمان القيام بكل هذه المهام جزءًا لا يتجزأ من مسؤوليات مديري الشركات، بما يتماشى مع استراتيجية “التنمية” التي تتبعها الدولة.
ومن المثير للاهتمام، أنه عندما قررت الدولة “تحرير” الاقتصاد، أقام الحكام علاقة مماثلة مع “القطاع الخاص” الآخذ في التوسع. فابتداءً من عام 1974، التفّت مجموعة اجتماعية جديدة حول الدولة، مستخدمة علاقاتها للاستيلاء على الموارد العامة. وتألفت هذه المجموعة، التي شكلت “مجتمع الأعمال” الجديد في مصر، من شرائح من القطاع الخاص القديم الذي نجا في عهد عبد الناصر، ومديري الدولة – مع علاقات قوية مع القطاع المصرفي الذي تديره الدولة، والقادمين الجدد المغامرين . وقد ركز هذا “القطاع الخاص” الناشئ على الأنشطة المربحة – وغالبًا ما كانت مدعومة بشكل كبير – مثل الاستيراد والخدمات المالية والسياحة، بينما استمر القطاع العام في تحمل مسؤولية الجزء الرئيسي من التوظيف والإنتاج. وعلى هذا النحو، فإن استراتيجية تراكم الثروة لهذا القطاع الخاص لم تكن لتنجح إلا من خلال تشابكه مع الدولة واعتماده عليها. وكان فقدان حظوة الحكام يعني فقدان إمكانية الحصول على القروض المصرفية، والتراخيص، ومصادرة الأراضي، وصفقات الخصخصة، وهو ما كان يعني في معظم الحالات الطرد من السوق. تعمق نمط التبعية هذا خلال العقود التالية . وحتى عندما حاولت شرائح مهمة من مجتمع الأعمال هذا، نحو عام 2000، القيام بدور سياسي أكثر نشاطًا وإعادة تشكيل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فقد فعلوا ذلك من خلال إعادة التجمع حول نجل الرئيس، جمال مبارك. بمعنى أنه كان بمثابة جسر عبور إلى الدولة بدلًا من أن يكون وسيلة ضغط للحد من سلطتها. وفي كلتا الحالتين، توقف النجاح الأولي لهذه المجموعة في البداية في عام 2011 عندما تدخل الجيش واعتقل معظم قادتها في سياق انتفاضة التحرير، ثم أعادهم إلى مكانهم التقليدي في التبعية للدولة.
وكما هو الحال مع المؤسسات المختلة والنظام السياسي غير الفعال، فإن الإدارة النيوباتريمونيالية للاقتصاد لم تولّد نموًا يلبي المطالب المتزايدة للسكان ويواكب التغيرات الاقتصادية العالمية. لا تقوم الإدارة النيوباتريمونيالية بتخصيص الموارد بفعالية أو تنظيم النشاط الاقتصادي بطريقة ديناميكية ومتجاوبة، أو اغتنام الفرص، أو إنتاج المواهب، أو توليد الإبداع، أو تعزيز المنافسة، أو حتى محاكاة النجاح الذي تحقق في أماكن أخرى. يقوم المشغلون الخاصون بذلك، عندما ينجحون. هناك بالتأكيد حالات من الدول النيوباتريمونيالية التي طورت اقتصاداتها، مثل كوريا الجنوبية وغيرها من قصص النجاح في شرق آسيا. لكن هذه الدول النيوباتريمونيالية قامت بحماية قوى السوق وربطها بالاستراتيجية العامة للحاكم، ولم تنزع أحشاء السوق وتستبدل شركاتها بشركات ماموث تديرها الدولة.
وباختصار، فإن النجاح الساحق للاستبداد، أي إخضاعه للقوى الاجتماعية وسيطرته على مؤسسات الدولة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، كرّس الإدارة النيوباتريمونيالية للدولة. وأدى إضعاف القوى الاجتماعية إلى عدم وجود جهات فاعلة مهمة تدفع باتجاه ترشيد مؤسسات الدولة، أو تطوير اقتصاد السوق، أو التفاوض على الصراعات الاجتماعية. وبالتالي، لم تسقط شبكة المحسوبية التي شكلت “السقالات” الأولية لتشكيل الدولة. وبدلًا من ذلك، أصبحت طريقة عمل مؤسسات الدولة والاقتصاد والصراعات الاجتماعية. لقد أفرغت النزعة الاستعمارية الجديدة مؤسسات الدولة من محتواها، وكرّست الركود الاقتصادي والتفتت الاجتماعي. وبعبارة أخرى، حافظت على تماسك الدولة لكنها أضعفت قدرتها على الصمود. وفي نهاية المطاف، أدّت هشاشة الدولة إلى إدامة الاستبداد، الذي أدى بدوره إلى تعميق هشاشة الدولة، ليشكلا معًا دوامة انحدار مفرغة توقع الحاكمين والمحكومين في شركها.
ثانيا – المشاركة المدنية ومعضلة الشيطان
يخلق الاستبداد وهشاشة الدولة فخًا للمشاركة المدنية. لا يؤدي العمل السياسي، أو المشاركة المدنية ككل، في ظل الظروف الاستبدادية إلى تغيير تراكمي، وغالبًا ما ينتهي الأمر بتعزيز النظام الذي يسعى إلى تغييره. من ناحية أخرى، تواجه السياسة الثورية قمعًا شديدًا وناجحًا في الأوقات العادية، وعندما تنجح مؤقتًا فإنها تواجه خطر إسقاط الدولة نفسها، ما يخلق الظروف لعودة الاستبداد. لم تنجح أي من الاستراتيجيتين، أو من المرجح أن تنجح في المستقبل المنظور. ما يقترحه هذا الفصل بدلاً من ذلك هو إعادة تركيز المشاركة المدنية على تحويل الدولة وعلاقتها بالاقتصاد والقوى الاجتماعية.
1. المشاركة المدنية المحاصرة
على مدار ستة عقود، عانى الفاعلون السياسيون والمدنيون المصريون من هذا السؤال. وقرر العديد منهم السعي للحصول على اعتراف رسمي والعمل في العلن. وقد تبنى الحكام المتعاقبون استراتيجيات مختلفة للتعامل معهم، فمنحوا بعضهم درجات متفاوتة من الاعتراف وحرية العمل، وحرموا البعض الآخر. فقد حبس عبد الناصر معظم الإسلاميين وبعض اليساريين، لكنه سمح لليساريين الآخرين وقلة من الليبراليين بالعمل. وبينما لم يتمكنوا من تشكيل أحزاب سياسية، سُمح لهم بنشر المجلات والصحف والسيطرة على بعض المؤسسات الثقافية التي حاولوا من خلالها التواصل مع الجمهور. أنشأ السادات ثلاثة أحزاب سياسية لها صحف وفروع في جميع أنحاء البلاد وبعض الحرية في التنظيم وتجنيد الأعضاء. ثم استولى على حزب واحد وحوله إلى الحزب الوطني الديمقراطي. وعندما أعلن حزب الوفد القديم عودته عام 1978، حظره السادات. لكنه سمح بظهور حزب آخر، ثم سمح للإسلاميين بالعمل بشكل علني، وإن كان دون اعتراف رسمي. سمح مبارك للوفد بالحصول على وضع قانوني، وكذلك بعض الأحزاب الأخرى غير المهمة. كما سمح أيضًا للإسلاميين بخوض الانتخابات – سواء في النقابات العمالية والمهنية أو البرلمانات. لكنه رفض الاعتراف الرسمي بهم، وكذلك الشيوعيين الذين عملوا أيضًا بشكل علني. ومثلما كان الحال مع عبد الناصر والسادات، عملت بعض الصحف كأحزاب سياسية بحكم الأمر الواقع، ولكن بالاسم والاعتراف القانوني. وركزت بعض الأحزاب السياسية الرسمية أنشطتها بشكل شبه حصري حول صحفها.
وحدثت عملية مماثلة في المجتمع المدني، حيث منحت الدولة الاعتراف ببعض المنظمات ورفضت الاعتراف بمنظمات أخرى، بينما سمحت بدرجات متفاوتة من حرية الحركة لكل من المعترف بها وغير المعترف بها. وجد العديد من النشطاء في المشاركة المدنية مخرجًا من معضلة العمل السياسي في ظل الاستبداد. فقد شعروا بالإحباط على وجه الخصوص بسبب فشل الأحزاب السياسية في تحقيق أهدافهم، ورأوا فرصة في قطاع جديد بدا لهم أنه يفلت من الضوابط السلطوية ويوفر طريقًا أكثر فعالية للتعبئة الشعبية. كما وجدوا فيه أيضًا وسيلة لتجاوز الأزمة الأيديولوجية في اليسار، نظرًا للتداخل بين المشاركة المدنية والقضايا التي ناضلوا من أجلها: العدالة الاجتماعية والديمقراطية والتحرر الوطني. وبالإضافة إلى هذه العناصر، وجد العديد من الإسلاميين واليساريين الراديكاليين في المشاركة المدنية وسيلة للالتفاف على قمع الدولة، وفرصة لبناء شبكات والوصول إلى جمهور أوسع. تكمن المشكلة في كل هذه الاستراتيجيات في أن جهاز أمن الدولة رأى فيها على حقيقتها: محاولة لإزاحة السيطرة السلطوية التي كانوا ملتزمين بها تمامًا. لذا، انقلبوا على الآلة النيوباتريمونيالية وعملوا على دمج المساحات المدنية في شبكتها، مستخدمين جرعات مختلفة من الثواب والعقاب لتنظيمها. بعبارة أخرى، نظرت الدولة إلى المشاركة المدنية كجزء من النشاط السياسي، وبالتالي وسّعت نطاق “نظامها السياسي” ليشملها.
وفي نهاية المطاف، وجد كل من العمل السياسي والمشاركة المدنية نفسيهما في نفس الفخ السلطوي. فمع نهاية ولاية الرؤساء الثلاثة، كانت السلطوية قوية كما كانت في بدايتها، وكانت المعارضة للسلطوية، السياسية والمدنية على حد سواء، ضعيفة ومشتتة كما كانت في البداية. ومرة أخرى، من المهم التأكيد على أن النتائج الهزيلة لا يمكن أن تُعزى إلى تقصير أو تواطؤ من جانب الأحزاب السياسية أو منظمات المجتمع المدني. بل على العكس من ذلك. فقد حشدت هذه الأحزاب الدعم، وحاولت تجنيد الأعضاء، ودفعت باتجاه التغيير التدريجي، ونظمت الاحتجاجات وخاضت الانتخابات – بقدر ما كان مسموحًا لها. كما أنهم تجاوزوا حدود المسموح به. لكن لم يكن لأي من نجاحاتهم المحدودة أثر تراكمي من حيث تعزيز موارد السلطة أو رأس المال السياسي أو القدرة على التصرف بشكل مستقل عن تفضيلات النظام – ناهيك عن الطعن في قبضته على السلطة. فكلما قرر النظام أن هامش الحرية بدأ يتسع أو يوشك أن يشكل تهديدًا له، أغلق الفضاء العام وقلّص تلك الحريات.
كان الاستثناء الوحيد لهذه الدورة السيزيفية هو العقد الذي سبق انتفاضة التحرير (2000–2011). هنا، كان المحرك الرئيسي للتغيير هو منظمات وشبكات المجتمع المدني. فقد دفع تبني الولايات المتحدة الأمريكية لسياسة دمقرطة قوية في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، الرئيس مبارك إلى توسيع “هامش الحرية” الممنوح للفاعلين السياسيين والاجتماعيين. لم يغيّر هذا التغيير من طبيعة الاستبداد، لكنه خلق مساحة أكبر لالتقاط الأنفاس للفاعلين الاجتماعيين. فانتشرت المشاركة المدنية وعززت قوتها التنظيمية خارج المساحات الكلاسيكية للعمال والنقابات العمالية. وظهرت من حولهم شبكة كبيرة وفضفاضة من الجمعيات والتجمعات والحركات والمبادرات، معظمها منخرط في أنشطة تبدو غير سياسية. وعلى مدى عقد كامل من الزمن، تفاعلت هذه الشبكات مع بعضها البعض، بدرجات مختلفة من التحالف والتنسيق والتعبئة وما إلى ذلك، ما خلق طبقات من القوة الاجتماعية التي ساهمت في انتفاضة التحرير عام 2011.
وقد فتح النجاح الأولي للانتفاضة فرصة سانحة للسياسة الثورية لدفع مصر على طريق التحول الديمقراطي. خلقت الفوضى التي تلت ذلك، سواء كانت عفوية أو متعمدة، ظروفًا مواتية لعودة الاستبداد. فقد تبادل الإسلاميون والليبراليون والقوميون واليساريون الاتهامات بسوء السلوك والخيانة. وبغض النظر عن صحة ادعاءات كل منهم، أصبح من الواضح بحلول عام 2014 أن نافذة السياسة الثورية قد أغلقت. وسرعان ما أعاد النظام الجديد ترسيخ السيطرة السلطوية، وحدد منظمات المجتمع المدني بشكل صحيح كجزء من التهديد، وبالتالي أغلق معظم المساحات المدنية.
بخلاف رواية الخيانة، يمكن النظر إلى انهيار التجربة المصرية القصيرة للتحول الديمقراطي كنتيجة لهشاشة الدولة. أولًا، يعكس الاختلال الحاد في توازن القوى بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين المصريين اختلالًا شديدًا في توازن القوى السياسية والاجتماعية المصرية، ما يعكس قهر الحاكم للقوى الاجتماعية وتبعية الأخيرة الهيكلية للدولة. وهذا ما يجعل التحول الديمقراطي أمرًا مستبعدًا، لأن من يسيطرون على السلطة الهيكلية غالبًا ما يهزمون منافسيهم. كما أن الاختلال الشديد في توازن القوى لصالح الحكام يجعل السيطرة على أجهزة الدولة مسألة حياة أو موت لأي لاعب سياسي. وهذا يعني أن من يخسر السيطرة على جهاز الدولة لصالح منافس – نتيجة الانتخابات – يواجه خطر الفناء السياسي. هذا الوضع الصفري يجعل من التناوب الديمقراطي على السلطة احتمالًا بعيدًا إلى حد ما ويدفع اللاعبين إلى محاربة بعضهم البعض حتى الموت، وأحيانًا بالمعنى الحرفي للكلمة.
ويتفاقم هذا الأثر الناجم عن اختلال توازن القوى بسبب جانب ثانٍ من هشاشة الدولة، وهو ضعف النظام السياسي. فكما أوضحنا في القسم السابق، أدت عقود من الاستعمار الجديد إلى تكلس السياسة، واختزالها في المزايدات والأفعال الرمزية والتمسك بالمواقف المتطرفة، دون الاهتمام بتطوير سياسات بديلة أو دمج المصالح أو التفاوض على حلول وسط. والنتيجة النهائية هي هيمنة الأحلام الطوباوية. وإذا ما اقترنت هذه الراديكالية الطوباوية بثقافة سياسية تعطي الأولوية للوحدة والتمسك بالحقائق المطلقة بينما تعتبر المعارضة والتشكيك خيانة، فإنها غالبًا ما تؤدي إلى مواقف إقصائية. بعد الإطاحة بمبارك في عام 2011، لم ينظر كل لاعب سياسي إلى الآخر باعتباره منافسًا في مجتمع تعددي، بل باعتباره شذوذًا تاريخيًا، وتشكيلًا سرطانيًا من شأنه أن يدمر نسيج البلاد ذاته إذا لم يتم كبح جماحه. وبالتالي، حاول كل لاعب إيجاد طرق ليس فقط لتقليص حجم منافسيه، بل للقضاء عليهم.
أخيرًا، أدّت هشاشة مؤسسات الدولة واعتمادها على أسلوب عمل نيوباتريمونيالي إلى توقفها تقريبًا عندما تراجعت قبضة الحكام على شبكة المكافأة والعقاب. وكان لذلك تأثير مدمر على التحول الديمقراطي. فمن ناحية، جعل هذه المؤسسات غير قادرة على لعب دور الوساطة والاحتواء والتخفيف من حدة الصراع السياسي الحاد الذي كان جارياً خلال المرحلة الانتقالية. فلا الشرطة ولا المحاكم ولا هيئات الدولة “المستقلة” كانت في وضع يسمح لها بتطبيق القانون أو التحكيم بين اللاعبين السياسيين أو رسم حدود للسلوك السياسي. وبدلاً من ذلك، أصبحت هذه المؤسسات نفسها خاضعة لهذا الصراع السياسي، حيث حاول كل لاعب الاستحواذ عليها وإضافة سلطتها إلى ترسانته. من ناحية أخرى، حرر انهيار الشبكة النيوباتريمونيالية موظفي الخدمة المدنية المهمشين من الخوف ودفعهم إلى المشاركة في الاحتجاجات المطالبة بنماذج أكثر عدالة وموضوعية في إدارة مؤسساتهم. كما أنه أخاف أيضًا موظفي الخدمة المدنية الذين بنوا حياتهم على المكافآت الممنوحة لهم من خلال شبكة النيوباتريمونيال. وبما أن تلك المكافآت أصبحت مهددة، وأحيانًا تم تعليقها، توقف أولئك الذين قاموا بمعظم مهام العمل – وتمت مكافأتهم وفقًا لذلك من خلال الشبكة – عن العمل. وأولئك الذين لم تتم مكافأتهم لم يتولوا – وفي معظم الحالات لم يتمكنوا – من تولي المهام التي لم تكن مألوفة بالنسبة إليهم. ووجد المديرون أنفسهم في مواقف مستحيلة وغالبًا ما حاولوا إرضاء الجميع على حساب الأداء. وكانت النتيجة تباطؤًا في المخرجات في جميع مؤسسات الدولة، وتوقف بعضها بشكل شبه كامل. وقد أضاف هذا الأمر طبقة أخرى إلى الفوضى التي خلقها الاقتتال السياسي بين اللاعبين السياسيين، وأصبح جزءًا منها. كما أثار سخط الجمهور الذي شهد تدهورًا حادًا في أداء الدولة. وقد أدى عجز اللاعبين السياسيين عن تقديم بدائل سياسية قادرة على تحسين أداء مؤسسات الدولة – وبالتالي أداء الاقتصاد والخدمات العامة والقانون والنظام – إلى زيادة نفور الجمهور وخيبة أمله.
ومن هذا المنظور، كان لا بد لهشاشة الدولة – في سياق ثوري – أن تخلق مناخًا مواتيًا لعودة الحكم الاستبدادي. واليوم، عاد بعض نشطاء المجتمع المدني ذوي العقلية الإصلاحية إلى نموذج العمل داخل الحلقة الضيقة للنظام. وانسحب آخرون في انتظار فرصة ثورية جديدة. والمشكلة في كلا الخيارين هي نفسها: فالقيود التي أوجدتها هشاشة الدولة لم تتغير، وبالتالي من غير المرجح أن يؤدي أي من النموذجين إلى نتيجة مختلفة في المستقبل.
2. اتجاهات جديدة: تحويل مؤسسات الدولة والاقتصاد والمجتمع
لتجنّب الوقوع في فخ الدولة الهشّة السلطوية، يقترح هذا الفصل إعادة تركيز المشاركة المدنية على تحويل الدولة نفسها، وكذلك علاقتها بالاقتصاد والقوى الاجتماعية. ويعني ذلك إعطاء الأولوية لإعادة تشكيل مؤسسات الدولة وتحرير الاقتصاد من قبضتها، بالإضافة إلى تبني استراتيجية جديدة لبناء السلطة الاجتماعية. بعبارة أخرى، العمل على عكس الديناميات التي تغذي هشاشة الدولة. إن عكس هشاشة الدولة من شأنه، إذا ما نجح في ذلك، أن يؤدي إلى تفكيك الاستبداد تدريجيًا وتحويل مصر إلى دولة فاعلة، ذات مجتمع تعددي واقتصاد مستدام ونظام حكم ديمقراطي.
إعادة تشكيل المؤسسات
كما تشير الأقسام السابقة، فإن ما يبقي مؤسسات الدولة هشة ليس مشكلة عرضية يمكن إصلاحها بالخبرة الفنية. إنها عقود من الإدارة النيوباتريمونيالية التي أفرغتها من محتواها وجعلتها هشة بنيوياً ومختلة وظيفياً. ولكن هذا يعني أيضًا أن عكس هشاشة المؤسسات لا يمكن أن يحدث بمجرد ضمان استقلاليتها. فكما أظهرت السنوات 2011–2014، من المستحيل عملياً أن تعمل هذه المؤسسات دون يد الحكام. يكمن التحدي إذن في تحديد طريقة لعكس مسار هذه الهشاشة في ظل الحكم الاستبدادي ودون إثارة رد فعل استبدادي سلبي.
ويمكن أن يُظهر تحليل تجارب الدول الاستعمارية الجديدة السابقة طرقًا مختلفة لتحقيق هذا الهدف الصعب. فبريطانيا في القرن التاسع عشر وكوريا الجنوبية في أواخر القرن العشرين تقدمان مسارات مختلفة للغاية. فقد خاضت الأولى نضالاً طويلاً وممتداً على مراحل، حيث دفعت القوى الاجتماعية الصاعدة باتجاه ترشيد المؤسسات العامة وبيروقراطيتها. ولم يفعلوا ذلك مدفوعين بأهداف إيثارية أو لأنهم كانوا مقتنعين بالنوع المثالي للبيروقراطية العقلانية التي طرحها ماكس فيبر. لقد كانوا ببساطة مدفوعين بالمصلحة الذاتية: فوضع قواعد موحدة للالتحاق بالمؤسسات – من الخدمة المدنية إلى الجيش إلى الجامعات – كان يعني المزيد من فرص الوصول وبالتالي المزيد من الحراك الاجتماعي لهم ولأبنائهم. في كوريا الجنوبية، جاء الدفع نحو الترشيد والتوحيد من الحاكم المستبد نفسه. ولم يكن مدفوعًا بحجج ماكس فيبر ولا باعتبارات العدالة الاجتماعية، بل كان مدفوعًا بالضرورة الاقتصادية البحتة. فقد شرع الجنرال بارك تشونغ هيه في مشروع يهدف إلى “إعادة خلق المعجزة اليابانية في جيل واحد”. ولتنفيذه، استنتج أنه بحاجة إلى إعادة تشكيل مؤسسات الدولة التي تتعامل مع السوق. وكان هدفه إعادة تشكيل هذه المؤسسات على أساس الجدارة. ولتحقيق ذلك في ظل وضع سياسي فوضوي، اختار أن يحمي هذه المؤسسات “الاقتصادية” من النزعة النيوباتريمونيالية المتفشية التي كانت تحكم جميع مؤسسات الدولة. وبالنسبة للمؤسسات المختارة، قام بتعيين الموظفين على أساس المؤهلات المعيارية، وأعطى الأولوية للكفاءة والخبرة وتشجيع الابتكار. واستمرت بقية مؤسسات الدولة في العمل كخزان لامتيازات النيوباتريمونيالية. وهناك قام بتوظيف ضباط الجيش الذين يحتاجون إلى وظائف مربحة بعد الخدمة العسكرية. وفي نهاية المطاف، ترقى الموظفون المحترفون الذين تم تجنيدهم في الرتب العسكرية وقادوا وظائف مثيرة للإعجاب، وانتقل بعضهم من مؤسساتهم الأصلية إلى مؤسسات أخرى حاولوا فيها تعزيز ثقافة الاحتراف نفسها. وأصبح موظفو الخدمة المدنية في المؤسسات الأخرى يشعرون بالغيرة من النجاح والمزايا المادية التي حققتها مؤسسات الجدارة وسعوا إلى تقليدها. لم تتحدَّ أي من هذه المؤسسات السيطرة السياسية للجنرال بارك: لكنها قامت بترشيد صياغة سياساته وتنفيذها. كما أنها أوجدت مجموعة من مديري الدولة الذين كان ولاؤهم للإدارة السليمة للموارد العامة والأداء المنظم لمهامهم. وفي نهاية المطاف، فإن ما بدأ كجزر من الفعالية في عدد محدود من المؤسسات كان له تأثير معدٍ وسحب البقية إلى الأعلى. سقط الاستبداد في كوريا الجنوبية في نهاية المطاف، لأسباب لا علاقة لها بهذه المؤسسات، لكن المؤسسات القائمة على الجدارة ساعدت في إدارة الانتقال الصعب إلى الحكم الديمقراطي.
ومن الممكن تصور الجمع بين النهجين البريطاني والكوري الجنوبي: الدفع باتجاه التوحيد والترشيد في جميع المؤسسات العامة، مع تجنب أي تحدٍّ للسيطرة السياسية للحكام على هذه المؤسسات. وهناك أمور قليلة يمكن أن تقلل من احتمال الاستجابة السلطوية لهذا الجهد. أحدها هو تجنب مسألة استقلالية المؤسسات، لأنها ببساطة ليست أولوية أو شرطاً لا يمكن أن يتم الإصلاح من دونه. وثانيها التأكيد على الجوانب الفنية للإصلاح المؤسسي والتقليل من شأن عواقبه السياسية، وتقديمه كوسيلة ضرورية لزيادة الفعالية. وثالثها هو تأطيره كقضية عدالة اجتماعية – كتحسين فرص الحصول على الوظائف والحراك الاجتماعي لجميع الأفراد المؤهلين. ويصعب على الحكام تبرير معارضتهم للقواعد والإجراءات الموحدة للتوظيف والترقية، خاصة أمام مؤيديهم. ويصعب عليهم معارضة الدعوات المطالبة باتباع قواعد الجدارة وتحديد معايير واضحة لقياس الأداء وتقييمه، ووضع معايير موضوعية للترقية والتعيينات في المناصب العليا. وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات تبدو تقنية، إلا أنها سياسية بطبيعتها. فكل مكسب في إعادة تشكيل مؤسسات الدولة يقوي “عضلاتها” ويجعلها تقترب خطوة أخرى من الوقوف بمفردها دون سقالات الاستعمار الجديد، مع ما يترتب على ذلك من عواقب واضحة على الحوكمة وإرساء الديمقراطية. ما يبدأ كعملية ذات دوافع تقنية سيكون له حتماً عواقب سياسية. لكن الترويج لهذه الإصلاحات المؤسسية كجزء من الإصلاح السياسي سيقضي عليها في البداية.
تحرير الاقتصاد
نادراً ما يرتبط بناء اقتصاد السوق بالمشاركة المدنية، وعادة ما ينظر إليه الناشطون فيه بعدائية. ينبع جزء من هذا العداء من ارتباطه بالمؤسسات الاقتصادية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكلاهما يُنظر إليه على أنه مخالب “النظام الرأسمالي الإمبريالي” أو، في أفضل الأحوال، محركين لـ”إجماع واشنطن” غير المراعي للعدالة الاجتماعية. سبب آخر لهذا العداء هو قضية الخصخصة التي كانت في مصر رمزًا للفساد والاستيلاء الشخصي على الموارد العامة. لكن جزءًا كبيرًا من العداء أيديولوجي، نابع من سبعة عقود من سيطرة الدولة على الإنتاج التي جمعت بين القومية الاقتصادية وملامح دولة الرفاه. والنتيجة هي إجماع وطني، تشترك فيه معظم الجهات الاجتماعية الفاعلة، على نموذج اقتصادي يتضمن: قطاع عام كبير، ومسؤولية الدولة عن توفير السلع والخدمات بأسعار معقولة وكذلك العمالة المجزية لجميع المواطنين، وحماية العمالة مقابل رأس المال، والحد من الواردات، وتشجيع الصادرات، وحماية قيمة العملة الوطنية، وكذلك تطوير وتوسيع الاقتصاد ككل وتحسين قدرته التنافسية الدولية. وتتعارض الدعوة إلى إصلاحات السوق مع “توافق القاهرة” هذا.
ويجادل هذا الفصل بأن الخروج عن هذا الإجماع ضروري لتحرير القوى الاجتماعية وإعادة تقويم علاقتها بالدولة – وكلاهما شرط أساسي لعكس هشاشة الدولة وتمهيد الطريق نحو التحول الديمقراطي. إن التنمية الاقتصادية شرط لا غنى عنه للتحول الديمقراطي – أو أي شكل من أشكال الإصلاح التدريجي. ومن الصعب أن نرى سببًا لنجاح نموذج توافق القاهرة الذي فشل لسبعة عقود في تعزيز التنمية الاقتصادية اليوم. والأهم من ذلك أن نموذج توافق القاهرة يكرس تفوق الدولة على القوى الاجتماعية، ويحكم على الأخيرة بالتبعية الهيكلية. فالقوى الاجتماعية لا تنبثق من الخطاب، ولا تبني قوتها من الدساتير. فهي تنبثق من المصالح الجماعية والعادات وما يقابلها من رؤى للعالم، وتبني قوتها من الموارد، وخاصةً صناعة الثروة. ويرتبط كل ذلك ارتباطًا وثيقًا بالسيطرة على علاقات الإنتاج. وتعني سيطرة الدولة على الإنتاج سيطرة الدولة على قوى الإنتاج – رأس المال والعمل والكوادر. وببساطة يستحيل الحد من سلطة الدولة دون درجة من الاستقلالية لكل من العمل ورأس المال. ولكي تتمكن هذه القوى من بناء استقلالها، فإنها تحتاج إلى التحرر من سيطرة الدولة.
فالسؤال إذن لا يتعلق في الحقيقة بما إذا كان الاقتصاد “حرًا” أو موجّهًا برؤية تنموية بقدر ما يتعلق بإخضاع قوى الإنتاج للدولة. فالفلاحون الذين يحرثون الأرض بأوامر من الدولة، ويزرعون المحاصيل التي تقررها هي ومتى تقررها، وبالطريقة التي تقررها هي باستخدام المدخلات التي تعطيها لهم، ثم يسلمون المحصول للدولة بالأسعار التي تقررها هي ويحتفظون بالجزء الذي تسمح لهم بالاحتفاظ به، ليسوا قوة إنتاجية حرة. فهم لا يتمتعون باستقلالية ذاتية تذكر، ولا يمكن توقع أن يتحدّوا سلطة الدولة إلا في حالات التمرد المؤقتة. وينطبق الأمر نفسه على العمال والكوادر ورأس المال – بأشكال ودرجات مختلفة. لذلك فإن تحرير قوى الإنتاج يعني بالضبط ما يلي: تحرير المنخرطين في الإنتاج من العبودية للدولة والسماح لهم بالاستقلال الذاتي، ليصبحوا فاعلين بدلاً من أن يكونوا رعايا. لا ينبغي الخلط بين هذا التحرر والسياسات المناهضة للتنظيم أو السياسات الليبرالية الجديدة. يمكن للدول أن تتدخل في الأنشطة الاقتصادية وهي تتدخل بالفعل: فهي تنظم الأسواق، ويمكنها توجيه التنمية وتحديد أهدافها، وما إلى ذلك. لكنها تفعل كل ذلك في حوار – وصراع – مع قوى الإنتاج. تختلف نماذج تدخل الدولة، من الولايات المتحدة في عهد ريغان إلى الدول الإسكندنافية إلى كوريا الجنوبية. ولكن في كل هذه النماذج، تظل القوى المنتجة في جميع هذه النماذج لاعبين يتعين على الدولة أن تساومهم ولا تهيمن عليهم. أما عندما تنتزع الدولة استقلاليتها وتسيطر مباشرة على الإنتاج، فإننا نحصل على النموذج المصري ما بعد 1952. إن ما يدعو إليه هذا الفصل ليس انسحاب الدولة من الاقتصاد، بل تحرير قواه الإنتاجية من الخضوع الحالي للدولة.
ولا ينبغي اختزال تحرير الاقتصاد في الخصخصة أيضًا. فقد كان القطاع الخاص في مصر تاريخيًا مخيبًا لآمال الاقتصاديين الذين جادلوا لصالحه. فمنذ منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، استخدمت الحكومات المتعاقبة سلطاتها التشريعية المكتسبة حديثًا لتقديم حوافز للمستثمرين – ضريبية ومالية وتشريعية – لتعزيز النمو. وقد استفاد القطاع الخاص من هذه الحوافز وحقق بعض النمو، ثم أصيب بالركود. وبحلول عام 1950، تباطأ هذا النمو وتراجع في بعض القطاعات. ولم تكن هذه الاستجابة الجامدة للحوافز مدفوعة دائمًا بالجشع أو الكسل: ففي معظم الحالات، عكست أوجه القصور الهيكلية للسياسات العامة. فمع قلة أو انعدام الاستثمار في ظروف العمل أو في مهنية الإدارة أو في التسويق أو في الأطر التنظيمية، لم يكن بوسع المشغلين من القطاع الخاص أن ينمو إلا بقدر ما استفادوا من موقعهم في مصر. القرب من الموارد المتاحة محلياً، والإلمام باحتياجات السوق المحلية، والعمالة الرخيصة وإن كانت غير ماهرة. وبمجرد أن استفادوا من هذه المزايا، لم يكن لدى المشغلين من القطاع الخاص مساحة للنمو. فقد كانت قدرتهم التنافسية منخفضة في الأسواق الخارجية، ولم تستطع الأسواق المحلية أن تنمو بسرعة كافية لخلق طلب يمكن أن يجذب النمو.
وحدثت عملية أسوأ مع برامج “التحرير” في عهد السادات ثم مبارك. فبالإضافة إلى القصور المستمر في السياسات العامة، ركز هؤلاء المشغلون في كثير من الأحيان على النهب المباشر للموارد العامة – في شكل قروض مصرفية مربحة، وإعفاءات ضريبية، وبيع الأصول المخصخصة بدلًا من إعادة هيكلتها، والاستيلاء على الأراضي العامة، والمضاربة المطلقة. وفي نهاية المطاف، استخدم المشغلون من القطاع الخاص دعم الدولة لمراكمة الثروات دون أن يحققوا بالضرورة النمو المأمول. وعلى الرغم من ارتفاع حصة القطاع الخاص في الاستثمارات وفي الناتج المحلي الإجمالي في بعض الأحيان، إلا أنه ظل معتمداً على الدولة وقطاعها العام ولم يصبح قاطرة النمو التي توقعها المدافعون عنه.
ولذلك، لا ينبغي النظر إلى تحرير الاقتصاد على أنه نقل ملكية أصول الإنتاج إلى أيدي القطاع الخاص بل على أنه بناء اقتصاد السوق. وهذا يعني إعادة هيكلة دور الدولة في الاقتصاد بحيث يخدم القوى الإنتاجية ويوفر لها المنصات اللازمة للنمو. ويشمل ذلك تحرير القوى المنتجة – الفلاحين والعمال والكوادر ورأس المال – من قبضة الدولة ومساعدتها على التنظيم والإنتاج والتسويق. ويشمل أيضًا إنشاء أطر تنظيمية ومؤسسية مواتية للإنتاج. بالإضافة إلى ذلك، يشمل تعزيز الإدارة الفعالة ورفع جودة العمل وتحسين ظروف العمل. وأخيراً، يشمل تطوير السياسات والمؤسسات اللازمة لإتاحة وصول أفضل للوحدات الإنتاجية إلى الأسواق، داخل مصر وخارجها، وتسهيل اندماجها في الاقتصاد العالمي.
ومن غير المرجح أن يسلك الحكام المصريون هذا الطريق طواعية. فهم أيضًا ملتزمون جزئيًا بتوافق القاهرة الذي يشكل نظرتهم للاقتصاد والدولة. وعلاوة على ذلك، فإن السيطرة على الاقتصاد لها فوائد سياسية واضحة، خاصة في مجتمع يعاني ثلثا سكانه من الضعف. لكن دعاة المشاركة المدنية يمتلكون ميزة مزدوجة، إذا اختاروا الدفع باتجاه هذه التحولات. فمن ناحية، تعتبر القوى الاقتصادية العالمية مواتية للعديد من هذه التغييرات. وعلى الرغم من أن تركيزها أضيق بكثير – بشكل رئيسي على خفض الإنفاق العام – إلا أن معظم هذه التغييرات ستحظى بدعمها إذا ما دفعت بها الجهات الفاعلة المحلية. ومن ناحية أخرى، فإن فشل توافق القاهرة أصبح واضحًا جدًا، ويشعر بعواقبه غالبية المصريين، لدرجة أنه قد يكون هناك مجال للتشكيك فيه علنًا. ويبقى التحدي الرئيسي هو دعاة المشاركة المدنية أنفسهم والتزامهم الأيديولوجي بتوافق القاهرة ذاته الذي يقوض سلطتهم السياسية.
بناء القوى الاجتماعية
لا تنشأ القوى الاجتماعية عن تصميم متعمّد، بل تتشكل من خلال تغيرات عميقة الجذور وطويلة الأمد. وكما ناقشنا في القسم الأول، فقد أدت عقود من تركيز رأس المال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في أيدي الحكام إلى إضعاف القوى الاجتماعية في مصر وجعلها تعتمد هيكليًا على الدولة. لا يمكن عكس هذا الخلل الهيكلي بسهولة، ولكن يمكن للفاعلين الاجتماعيين تكييف استراتيجياتهم لتجاوزه والتخفيف من عواقبه.
ولذلك، فإن إعادة بناء القوى الاجتماعية المصرية والحد من التفتّت الاجتماعي يجب أن يكون محور تركيز المشاركة المدنية. وتتطلب معالجة التفتّت الاجتماعي اهتمامًا مدروسًا بتنظيم الأفراد في مجموعات وشبكات، بغض النظر عن الأنشطة التي تلتقي حولها هذه التجمعات. وبالتالي، لا ينبغي أن يكون التركيز بالضرورة على النتائج المحددة لهذه التنظيمات، بل يجب أن يكون التركيز على فعل التنظيم نفسه. فحتى تنظيم الناس حول أنشطة بسيطة مثل عروض الأفلام أو الرياضة يمكن أن يعزز التماسك الاجتماعي، وهو أمر أساسي لأي مشاركة مدنية أو سياسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد عدم تسييس هذه الجهود في تجنب القمع وبناء المصداقية.
على الرغم من سيطرتها الواضحة، إلا أن الدولة المصرية لديها مستوى محدود من “التغلغل الاجتماعي”، أي المعرفة والقدرة على تشكيل التفاعلات الاجتماعية على المستويين الإقليمي والمحلي. وبصرف النظر عن شبكات المخبرين غير المتعلمة إلى حد كبير، تفتقر الدولة إلى كل من المعلومات حول هذه المناطق المجهولة والقدرة على تنظيمها. على سبيل المثال، عندما نفذت الدولة برنامجًا للتخفيف من حدة الفقر يتضمن دعمًا نقديًا، اكتشفت أنها لا تملك بيانات عن الدخل أو التوظيف أو الصحة أو التعليم أو معلومات عن أماكن إقامة ملايين المستفيدين المستهدفين. ومن بين الفاعلين السياسيين، كان الإسلاميون الاستثناء في بناء شبكات تربط بين الأفراد على المستويات المحلية والإقليمية والوطنية. ومع ذلك، كانت هذه الشبكة إسلامية حصريًا، وعلى الرغم من مهمتها الاجتماعية، فقد ظلت مرتبطة بمجموعة سياسية محددة، ما منعها من أن تصبح وسيلة لسلطة اجتماعية أوسع وجعلها عرضة لمراقبة الدولة وقمعها. وكان نهجها صالحًا، ويمكن أن تصبح نموذجًا للمشاركة المدنية، ولكن دون انتمائها السياسي.
وبالتالي، فإن الحل المقترح في هذا الفصل هو إنشاء منظمات غير سياسية تربط بين الأفراد على مستوى القرية والحي. وأعني باللاسياسية الشبكات التي يشكلها أفراد لا ينتمون إلى جماعات سياسية، ولا تتضمن أي محتوى سياسي، ولا تدعو إلى أي رسالة سياسية. وباستخدام المصطلحات الأمريكية، يجب أن تكون هذه المنظمات ثنائية الحزبية بشكل متعمد، وتتجنب القضايا السياسية وتركز فقط على المسائل الاجتماعية والاقتصادية. يمكن لهذه الشبكات/المنظمات القروية ومنظمات الأحياء أن تعالج قضايا الصحة العامة مثل إدارة النفايات والصرف الصحي أو تقديم الخدمات التعليمية. ويمكن أن تشمل المجموعات النسائية، ونوادي الشباب، ونوادي الشطرنج، ونوادي الكتب، والترتيبات المالية للمساعدة المتبادلة. وكلما أصبح الأفراد أكثر تنظيماً، كلما زادت قدرة المجتمع على التعبئة بشكل أكثر تماسكاً، وكلما زاد احتمال ظهور الفاعل الاجتماعي كشريك للدولة، حتى لو كان مجرد فاعل صغير. ومن خلال تجنب المواضيع السياسية والتركيز على القضايا المحلية والاجتماعية والاقتصادية، فإن هذه الشبكات ستدعو إلى مشاركة أوسع وتواجه قمعاً أقل. وفي نهاية المطاف، يمكن لهذه الشبكات/المنظمات أن تقيم علاقات على مستوى المقاطعات أو المناطق، وربما تبني شراكات مع الأجهزة الحكومية الحريصة على الانخراط في هذه المناطق المجهولة، على الرغم من مقاومة الأجهزة الأمنية التي تتوجس من الجمعيات المشبوهة سياسياً. إن التعاون مع أجهزة الدولة من شأنه أن يعزز هذه المنظمات ويمنحها الشرعية القانونية ويجعلها أكثر قيمة ومرغوبة لدى الجمهور. كما أن مثل هذه الشراكات من شأنها أن تدرب الأعضاء على الحوكمة وصياغة السياسات وصياغة المطالب، وكلها مهارات أساسية لأي مجتمع ديمقراطي في المستقبل.
ويمكن تطبيق النموذج نفسه على المنظمات العمالية والمهنية، التي تغطي مجموعة واسعة من الأنشطة من غرف التجارة إلى النقابات العمالية والمهنية واتحادات المزارعين والجمعيات الأكاديمية. وتتمتع هذه المنظمات بعضوية كبيرة، يصل عددها أحيانًا إلى الملايين. ومن الصعب العثور على فرد ليس عضوًا في واحدة منها على الأقل. وقد حاولت الجماعات اليسارية والإسلامية على مدى عقود بناء قواعد سياسية داخل هذه المنظمات بدرجات متفاوتة من النجاح. وعندما أصبحت هذه التنظيمات لاعبًا سياسيًا، تعاملت الدولة معها على هذا الأساس، مستخدمةً نفس النهج الذي تطبقه على الأحزاب السياسية: السماح لها ببعض الحرية، ومعاقبة أعضائها عندما يتجاوزون الحدود، واستخدام قادتها كوسطاء. يقترح هذا الفصل نهجًا معاكسًا: عدم تسييس هذه المنظمات والتركيز بدلًا من ذلك على بناء قدراتها كنقابات، مع التركيز فقط على الاهتمامات المهنية لأعضائها وخبراتهم. وكما هو الحال مع المنظمات المحلية، فإن هذا من شأنه أن يحميها من القمع، ويسمح لها بتعزيز هياكلها، والتواصل بشكل أفضل مع أعضائها.
وينطبق الشيء نفسه على الروابط التقليدية – مثل العائلات الممتدة والقبائل والطوائف الدينية، والتي لا تزال جميعها ذات أهمية في الحياة الاجتماعية في مصر. في المناطق الريفية وصعيد مصر وسيناء والشمال الغربي – أي في كل مكان خارج المراكز الحضرية الكبرى، تلعب هذه الروابط دورًا هامًا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تكتسب أحيانًا أهمية سياسية في أوقات التعبئة، مثل الانتخابات أو الأزمات الأمنية. ويشكل فهم هذه الروابط وديناميكياتها وحدودها وتعلم كيفية الارتباط بها والتواصل معها مصدرًا مهمًا لرأس المال السياسي لأي جهة فاعلة تسعى إلى الحد من سلطة الدولة.
هذه الاستراتيجية المقترحة ليست نظرية بحتة؛ فهي تستند إلى تجربة نمو المنظمات الاجتماعية بين عامي 2000 و2011 مع تجنب مزالقها، ولا سيما التسييس العلني. ومن المهم أن نلاحظ أن هذه الاستراتيجية لا يُتوقع منها أن تثمر سلطة فورية بل أن ترسي الأساس للتغيير المستقبلي. فمن شأنها أن تقلل من التشتت، وتعلم الأفراد التعاون، وتوفر خبرة واقعية في المفاوضة الجماعية، وتدربهم على تجميع المصالح وتمثيلها، وصياغة المطالب، والتفاوض على الحلول الوسط، وحشد الدعم. ومن شأنه أيضًا أن يوفر فرصًا لتطوير القيادة، وتحسين التواصل عبر المجتمع، وإدخال الواقعية في معالجة القضايا العامة، وترشيد المجال العام. ومن شأن هذا الإطار أن يتجاوز الاختلافات الهوياتية والأيديولوجية، ما يتيح حلولًا عملية للتحديات الواقعية بين الأشخاص ذوي الرؤى الأيديولوجية المختلفة. وهو في جوهره يضع اللبنات الأساسية للسلطة الاجتماعية.
ويبتعد النهج المقترح للمشاركة المدنية عن السياسات الثورية والإصلاحية، بينما يبني على إرثهما. فهو يعيد ترتيب أولويات المشاركة المدنية، ويوفر لها اتجاهًا متماسكًا ومنظمًا. ومن المرجح أن تواجه هذه الاستراتيجية مقاومة، لا سيما من السلطات الحاكمة والمصالح الراسخة الأخرى. ومع ذلك، وبالمقارنة مع المقاربات الثورية أو الإصلاحية، فإن لها فرصة أفضل في إدارة هذه المقاومة بفعالية.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الاستراتيجية المقترحة تهدف إلى معالجة أنماط عميقة الجذور في العلاقات بين الدولة والمجتمع، وهو ما يطرح بعض التحديات. أحدها هو الإطار الزمني. فلا تقدم هذه المقاربة المقترحة حلولاً فورية للمعاناة والقمع الحاليين، كما أنها لا تعد بنتائج قصيرة الأجل. وبالتالي، من السهل على النشطاء رفضها لصالح العمل السياسي الفوري. ومع ذلك، تُظهر التجربة أن الاستجابة للاحتياجات العاجلة لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج فعالة. وبالتالي، فإن مقاومة الاندفاع نحو العمل الفوري هو الخيار السياسي الأكثر حكمة. وينشأ التحدي الآخر من الميل إلى الخلط بين مجالات العمل المقترحة والنماذج المألوفة. على سبيل المثال، هناك خطر الخلط بين مفهوم تحرير القوى المنتجة والليبرالية الجديدة، أو إصلاح مؤسسات الدولة مع “التنمية المؤسسية” التي تروّج لها المنظمات العالمية. أخيرًا، يمثل هذا التوجه الجديد مسارًا استراتيجيًا في منطقة مجهولة؛ فهو يتطلب التركيز والمثابرة والاستعداد للتعلم من خلال الممارسة والتجربة.
الخاتمة
يوفّر تحليل العلاقات التاريخية بين الدولة والاقتصاد والقوى الاجتماعية في مصر رؤى نقدية حول أصول كل من الاستبداد وهشاشة الدولة. فعلى غرار العديد من بناة الدول، اعتمد الحكام المصريون على مزيج من السلطة والمحسوبية لبسط سيادتهم. وقد تمكنوا من ترسيخ أنفسهم كحكام مستبدين، بإخضاع القوى الاجتماعية والسيطرة المباشرة على الاقتصاد والتغيير الاجتماعي. ومع ذلك، كان انتصارهم باهظ الثمن أيضًا: فقد قضى على القوى الاجتماعية المسؤولة عادةً عن تطوير اقتصاد السوق، والدفع باتجاه ترشيد مؤسسات الدولة، والتفاوض بشأن الصراعات الاجتماعية. وأدى ذلك إلى إدامة هشاشة الدولة: فقد بقيت السقالات النيوباتريمونيالية لمؤسسات الدولة في مكانها، ومع مرور الوقت، أضعفتها وأفرغتها من محتواها. وأدت سيطرة الدولة على الاقتصاد إلى الركود، في حين أدت إدارتها للتغيير الاجتماعي إلى تفاقم الاستقطاب، ما حرم المجتمع من إطار وظيفي لمعالجة صراعاته. وأصبحت هذه الدولة الهشة فخًا للحكام والمحكومين على حد سواء. وبسبب عدم قدرتها على تحدي هذه السلطة الساحقة، أصبحت القوى الاجتماعية المقهورة والمجزأة والمستقطبة معتمدة هيكليًا على الحكام لحماية مصالحها. وفي المقابل، أصبح الحكام بدورهم معتمدين على إدامة السيطرة الاستعمارية الجديدة على الدولة والاقتصاد والصراع الاجتماعي. وقد خلق ذلك انزلاقا في حلقة مفرغة من هشاشة الدولة والاستبداد، حيث عزز كل منهما الآخر وعمّقه.
وتطرح هذه الحلقة المفرغة تحديات كبيرة أمام المشاركة المدنية. وحتى الآن، ركز الدعاة حتى الآن على تفكيك الاستبداد، إما من خلال العمل ضمن قيوده أو محاولة الإطاحة به. ولم تثبت فعالية أي من المقاربتين. يشير هذا الفصل إلى أن المشاركة المدنية يجب أن تركز على عكس هشاشة الدولة، لا سيما في ثلاث مجالات: إعادة تشكيل مؤسسات الدولة، وتحرير الاقتصاد، وبناء السلطة الاجتماعية. وتستهدف هذه الإجراءات الديناميكيات التي تحافظ على هشاشة الدولة وتديم الاستبداد. ويمكن أن يؤدي النجاح في معالجة هشاشة الدولة بهذه الطرق إلى تفكيك الاستبداد تدريجيًا وتحويل مصر إلى دولة فاعلة تتسم بمجتمع تعددي واقتصاد مستدام ونظام سياسي ديمقراطي.
ومع ذلك، من المهم أن ندرك أن المشاركة المدنية ليست حلاً سحرياً لجميع المشاكل الناجمة عن الاستبداد وهشاشة الدولة. بل يجب النظر إليها كجزء من استراتيجية أوسع تكمل الإصلاحات السياسية والمؤسسية والاقتصادية. وفي حين يشدد هذا الفصل على أهمية عدم تسييس المشاركة المدنية، إلا أنه يقرّ بارتباطها بالمشاركة السياسية اللازمة للدفع باتجاه هذه الإصلاحات. كما يشير أيضًا إلى أن المشاكل نفسها التي أعاقت المشاركة المدنية تعيق المشاركة السياسية أيضًا. وعلى وجه التحديد، فإن الجمع بين الاستبداد وهشاشة الدولة يجعل من غير المرجح أن تزيح السياسة الإصلاحية أو الثورية أيًا منهما. ولذلك، فإن بعض المسارات المقترحة للمشاركة المدنية يمكن أن تكون مفيدة أيضًا في العمل السياسي، لا سيما الحاجة إلى تعزيز المهارات السياسية.
وكما ناقشنا في هذا الفصل، فإن النزعة الاستعمارية الجديدة تُفقر السياسة، وتختزل الفاعلين السياسيين في إيماءات رمزية لا تحفزهم على تطوير المهارات اللازمة للانخراط في الصراع السياسي التعددي. وتمنع هذه الديناميكية الفاعلين الاجتماعيين من التوفيق بين المطالبات المتنافسة عندما ينفتح المجال السياسي، ما يؤدي بدلًا من ذلك إلى صراعات صفرية. وتبرز حدة الخلافات بين الإسلاميين والليبراليين واليساريين، لا سيما بين عامي 2011 و2014، الحاجة الملحة لمعالجة هذه المشكلة. ولذلك، يجب أن تركز أجندة المشاركة السياسية التحويلية على تطوير المهارات التي أعاقتها النزعة الاستعمارية الجديدة – وتحديدًا التفاوض على التسويات، ودمج المصالح، وصياغة البرامج السياسية. وينطوي ذلك على مهمتين حاسمتين.
الأولى هي إعادة تأهيل مفهوم التسوية. في الثقافة السياسية المصرية، غالبًا ما يُنظر إلى التسوية في الثقافة السياسية المصرية بشكل سلبي، ويرتبط ذلك بالخضوع للسلطة أو عقد صفقات سرية أو خيانة المبادئ. وبالتالي، يحتاج النشطاء السياسيون إلى إعادة تعريف التسوية كقيمة سياسية إيجابية ضرورية لبقاء الديمقراطية وفعالية العملية السياسية. ويتطلّب هذا الجهد مبادرة تثقيفية تُشرك القادة السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. كما يستلزم أيضًا إجراء مناقشات مستمرة داخل كل مجموعة سياسية حول حدود الحلول الوسط المستعدين لقبولها. وينبغي أن تتناول هذه المناقشات القضايا والمطالب التي تكون كل مجموعة على استعداد لتعليقها أو تأجيلها في سياق بناء التحالفات أو خلال الصراعات التعددية المطولة. ولا تقتصر هذه القضايا على المسائل النظرية، مثل الهوية، بل تشمل أيضًا مسائل سياسية عملية حول الحقوق، وسيادة القانون، ودور الدولة، والسياسات العامة التي تتراوح بين التعليم والسياسة الخارجية.
ويختلف هذا النهج عن الجهود السابقة التي ركزت على “بناء أرضية مشتركة” بين الإسلاميين والعلمانيين على سبيل المثال. وفي حين أن الانخراط في مناقشات معمَّقة حول الهوية أو الشريعة الإسلامية أو الحقوق الفردية أمر يستحق الثناء، إلا أنه من غير المرجح أن تؤدي هذه المناقشات إلى تقارب سياسي. فهي غالبًا ما تؤدي إلى اتفاقات سطحية تتجاهل الاختلافات عميقة الجذور. يختلف النهج المقترح هنا اختلافًا جوهريًا: فهو يبدأ بالاعتراف بأن هذه الاختلافات لا يمكن التوفيق بينها. سيستمر الإسلاميون في السعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، بينما سيستمر الليبراليون في الدعوة إلى الاحترام الكامل لحقوق الإنسان العالمية. يصبح السؤال بعد ذلك ما الذي يرغب كل طرف في إيقافه أو وضعه بين قوسين أو تعديله أو تأجيله من أجل خلق أساس لعملية سياسية تعددية، وإلى متى. كما ينطوي الأمر أيضًا على التخطيط لكيفية تعامل هذه المجموعات مع الحالات التي لا تولّد فيها العملية السياسية دعمًا كافيًا لأجندتها. ولمعالجة هذه الأسئلة وما شابهها، يجب على كل مجموعة سياسية أن تتواصل مباشرة مع ناشطيها ومؤيديها، بدلًا من التركيز على الحوارات بين المجموعات.
وتتمثل المهمة الثانية في تحويل التركيز من المبادئ إلى السياسة العامة. إن تطوير السياسات العامة ليس فقط مهارة حاسمة لأي عملية سياسية تعددية، بل يوفر أيضًا نهجًا أكثر فعالية لحل القضايا المتعلقة بالتسوية ودمج المصالح. تاريخيًا، لم يولِ الفاعلون السياسيون المصريون اهتمامًا كبيرًا لصياغة سياسات عامة يمكن أن تحل محل تلك التي ينتقدونها. وكان هذا الإهمال مفهومًا في سياق استبدادي، حيث كانت المعلومات شحيحة، ولم يكن هناك دافع كبير لتطوير سياسات بديلة. وعلى مدى أكثر من سبعة عقود، لم يكن لدى الجهات السياسية الفاعلة فرصة واقعية لتشكيل حكومة وتنفيذ السياسات، ولم يبدِ من هم في السلطة أي اهتمام بتبني السياسات التي تقترحها المعارضة. استمر الفاعلون السياسيون في نشر “برامج سياسية”، إما لتلبية المتطلبات القانونية للاعتراف بالأحزاب أو لتقديم أنفسهم كبدائل ذات مصداقية خلال الانتخابات. ومع ذلك، كانت هذه البرامج في كثير من الأحيان أشبه بقوائم أمنيات منها بسياسات قابلة للتنفيذ. وقد أصبح هذا النهج الرمزي واضحًا عندما فُتح المجال السياسي في عام 2011؛ فقد قوّض غياب البدائل السياسية أو حتى الفهم الواقعي لصنع السياسات مصداقية المشاركين في الحكومات الانتقالية بشدة. فقد وجد الليبراليون واليساريون والإسلاميون الذين انضموا إلى هذه الحكومات أنفسهم مقيدين بالجمود البيروقراطي، وغير قادرين على ترجمة مُثُلهم إلى سياسات عملية، ما أضرّ كثيراً بمصداقيتهم كبدائل قابلة للتطبيق للنظام القديم.
قد يبدو تطوير بدائل للسياسات العامة غير ذي صلة بالنظر إلى مرونة الاستبداد. ومع ذلك، يبقى ذلك تمرينًا قيّمًا، بغض النظر عن احتمال تشكيل الجهات السياسية الفاعلة للحكومات في المستقبل القريب. ولن يكون هذا الإعداد مفيدًا عندما تسنح الفرص فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى العديد من النتائج الإيجابية الأخرى، وكلها تساهم في السياسة التحويلية. أولاً، سيؤدي ذلك إلى تحويل المناقشات السياسية نحو الحوكمة وبعيداً عن صراعات الهوية والأيديولوجيا. وهذا التغيير، بدوره، سينقل الفاعلين السياسيين بعيدًا عن السياسة الرمزية – التي تتسم بسمات المحصلة الصفرية والإقصائية والطوباوية – نحو نهج أكثر استنادًا إلى المصالح. وعندما يبدأ الفاعلون السياسيون في التركيز أكثر على المصالح المتنافسة داخل المجتمع، فمن المرجح أن يدركوا الحاجة إلى دمج هذه المصالح، وعند هذه النقطة، سيعطون الأولوية للمصالح الأكثر أهمية. ومن شأن هذه العملية أن تعيد تشكيل المشهد السياسي وفقًا لتقسيمات المصالح، والتي غالبًا ما يكون التوفيق بينها أسهل من التوفيق بين القضايا القائمة على الهوية. ومن شأن مثل هذا التحول أن يقلل من الانقسامات الهوياتية والأيديولوجية، والتي غالباً ما يكون من الصعب تجاوزها. ومن المرجح أن يؤدي إشراك الإسلاميين والليبراليين واليساريين في المناقشات حول الصحة أو التعليم أو السياسات الاقتصادية إلى التوصل إلى حلول وسط أكثر من المناقشات التي تركز على الهوية الوطنية.
كما أن التركيز على السياسة العامة من شأنه أن يعزز فهم الفاعلين السياسيين لأجهزة الدولة ومواردها ومؤسساتها واختلالاتها وقيودها. وهذه المعرفة ضرورية لترشيد توقعاتهم ومواءمة تطلعاتهم مع الواقع. كما أنها ستشجع النشطاء على الانخراط في القضايا التي تلقى صدًى لدى جمهورهم المستهدف، ما يدفعهم إلى التفكير النقدي في تحديات الحكم والاستماع إلى مخاوف مؤيديهم. ومن شأن هذا الانخراط أن يرسّخ النشطاء بشكل أكبر في سياقاتهم المحلية، ويحول علاقتهم مع الجمهور من موقع الوعظ إلى موقع المشاركة الفعالة، وبالتالي تعزيز مصداقيتهم. ومن شأن ذلك أيضًا أن يوفر للمنظمات والحملات السياسية أنشطة جوهرية تنظم حولها، ما يقلل من الاقتتال الداخلي حول مسائل رمزية مثل البيانات واللوائح. وعلاوة على ذلك، فإن التركيز على السياسة من شأنه أن يمنح هذه المنظمات وسيلة لتقييم الفعالية بين أعضائها، ما يوفر معايير أساسية لتطوير القيادة وإدارة النزاعات والانقسامات الداخلية.
وأخيراً، فإن التركيز على صياغة بدائل السياسات أقل احتمالاً لإثارة القمع، خاصة عندما يتم ذلك بطريقة غير مسيّسة. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب الحد الأدنى من القدرات المؤسسية. ويمكن لأي مجموعة، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، الانخراط في هذا العمل. في الواقع، يمكن للأفراد القيام به بشكل مستقل، سواء كان ذلك ضمن إطار مؤسسي – مثل العمل في مركز سياسات أو إكمال أطروحة تخرج – أو خارج هذه الهياكل، مثل كتابة ورقة بحثية أو فصل من كتاب. كما يمكن القيام ببعض هذه الأنشطة عن بعد، ما يسمح للمغتربين بالمشاركة والانخراط في الحياة المدنية في مصر.
وختامًا، في حين أن المشاركة المدنية تمثل أساسًا حاسمًا لمعالجة هشاشة الدولة والسلطوية في مصر، فإن فعاليتها مرتبطة بطبيعتها بالعمل السياسي. فالجهود المدنية الرامية إلى بناء القوة الاجتماعية وإصلاح المؤسسات وتحرير الاقتصاد تخلق الأساس لمجتمع أكثر انخراطًا وتنظيمًا. وفي حين يجب أن تظل المشاركة المدنية غير مسيسة، إلا أنها في الواقع تتصل وتدعم الحركات السياسية الأوسع نطاقًا التي تدعو إلى إصلاحات منهجية. إن نفس المهارات اللازمة للمشاركة المدنية الناجحة – التفاوض، وبناء التحالفات، وتطوير بدائل السياسات – ضرورية أيضًا للجهات السياسية الفاعلة التي تسعى إلى إحداث تغيير دائم. وبالتالي، فإن دمج المشاركة المدنية مع العمل السياسي لا يعزز تأثير كليهما فحسب، بل يضمن أيضًا ترجمة الزخم المتولد على المستوى الشعبي إلى حوكمة فعالة ودمقرطة مستدامة. ومن خلال الفصل بين هذين المجالين والمواءمة بينهما، يمكن للفاعلين الاجتماعيين المصريين التحرك نحو كسر حلقة هشاشة الدولة والاستبداد، ما يفتح المجال أمام إمكانية قيام دولة تعددية وفعالة.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.