لم أكن يوماً من المتحمّسين، أو مستسيغي ما أدرج على تسميته بـ «الحريرية»، سواء بتوصيفها وطنية، أو سياسية؛ ولا سيما أن بداية شيوع هذا المصطلح قد أتى كتهمة وكإدانة خبيثتين غير بريئتين(!) من الخصوم السياسيين لمشروع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولأداء نجله «الشيخ» سعد، عندما عقد العزم (عائلياً وخارجياً) أن يكمل المسيرة السياسية لوالده، إلى أن أعلن تعليق عمله السياسي ولتياره، وسط ظروف وأسباب ما تزال «ملتبسة» ومبهمة حتى يومنا هذا، حيث تداخلت في حيثيات القرار «الغامض» العوامل الشخصية (المالية) والسياسية ببُعديها المحلي والخارجي، دون أن نسقط من الإعتبار إستغلال بعض أفراد العائلة التسمية لحجز مواقع لهم (إستئثارية – طمعية) في البنية التنظيمة «لتيار المستقبل»!
فالرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يكن حالة سياسية – عائلية تقليدية، شبيهة بباقي البيوتات السياسية والزعامتية اللبنانية، كما لم يكن واحداً من قادة الأحزاب الميليشياوية، الذين أطاحوا بتلك الزعامات «الكلاسيكية»، تحت شعار القضاء على الإقطاع السياسي.
إنما كان رفيق الحريري ظاهرة إستثنائية غير مسبوقة في الحياة السياسية اللبنانية على الإطلاق، حيث يكاد يكون الوحيد من كل الزعامات اللبنانية الذي أتى إلى حكم وبحوزته مشروعاً وطنياً متكاملاً، عمل على تنفيذه لنقل لبنان من حالة الحرب إلى حالة السلم، وفقاً لما نص عليه «الطائف».
فقد شرع الرئيس الشهيد منذ وصوله إلى الرئاسة الثالثة بديناميته وإندفاعيته، مسابقاً الوقت والزمن إلى إطلاق أكبر ورشة سياسية واقتصادية ومالية وإعمارية وإنمائية، لإعادة بناء ما تهدّم، وإعادة لبنان إلى دوره الريادي في المنطقة على الصعد كافة، وإستعادة ثقة العالم به، موظّفاً كل طاقاته وخبراته وعلاقاته وما يتمتع به من ثقة وتقدير عربي وعالمي، لتحقيق مشروعه الوطني المتكامل، بهدف إعادة ترسيخ السلم الأهلي والوحدة الوطنية والاستقرار الإجتماعي والنهوض الاقتصادي…
هذا ما يؤكد أن الرئيس الشهيد لم يكن رجل سياسة عادي، كان صاحب مشروع وطني إنقاذي رؤيوي وطموح لم تألفه من قبل الحياة السياسة اللبنانية «النمطية».
ما يدفعني لهذا الكلام، الكلمة الإستثنائية بالمضمون والتوقيت التي ألقاها منذ يومين الشيخ بهاء رفيق الحريري خلال مشاركته «اللافتة»، كضيف شرف في طاولة نقاش خاصة نظّمتها «جمعية الشرق الأوسط» في العاصمة البريطانية لندن، تحت عنوان: «لبنان والمنطقة: الماضي والحاضر والمستقبل»، بمشاركة نخبة من الباحثين والدبلوماسيين والخبراء في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية.
على صعيد التوقيت، جاءت الكلمة في وقت يعيش فيه «تيار المستقبل» أسوأ حالاته منذ نشأته، مع تعثّر عودة رئيسه الرئيس سعد الحريري للحياة السياسية، رغم ما ألمح إليه خلال مشاركته في ذكرى إستشهاد والده بالمشاركة بالاستحقاقات الإنتخابية القادمة، التي لم يتحقق الجزء البلدي منها، ولا ما يوحي بخوضه الإستحقاق النيابي القادم، مع المعلومات المتداولة عن تقليص العاملين في «بيت الوسط» وما تبقّى منهم في «التيار»، الذي سيقفل أبواب مركزه الرئيسي، وإختصاره بالأمين العام وفريقه الضيق، الذي سيعمل بمكتب صغير في «وادي أبو جميل».
هذه الإجراءات زادت من حالة الضياع والتشتّت التي يختلط بها جمهور الرئيس الشهيد، الذي بات شبه متيقن بإستحالة إستنهاض «تيار المستقبل» ليعيد حضوره في المعادلة السياسية الوطنية، مما يجعله يبحث عن ضالته من خلال إطار مرجعي يعيد تظهير وإنتاج مشروع الرئيس رفيق الحريري على أسس ومرتكزات تحديثية وتطويرية للبنان المستقبل، ولدوره السياسي والاقتصادي الذي يواكب الحداثة التي ستنجم عن المتغيّرات الجذرية في المنطقة.
أما على صعيد المضمون (وهذا الأهم)، قدّم النجل الأكبر للرئيس الشهيد رؤية متكاملة حول «السيادة الاستراتيجية المرنة» كإطار لاستعادة القرار الوطني في لبنان والمنطقة وسط بيئة إقليمية متقلّبة، مشدّداً على أن الأزمة اللبنانية ليست اقتصادية فقط، بل نتاج فشل ممنهج في الحوكمة، تغذّيه شبكات الفساد والنفوذ الإيراني، داعياً إلى إعادة هيكلة الاستثمار على أسس شفافة، وتعزيز الحوكمة في قطاعات حيوية مثل الطاقة، ولا سيما في إدارة موارد الغاز، مع تأكيده أن لبنان قادر على لعب دور استراتيجي في شرق المتوسط إذا تمكّن من بناء مؤسسات فعّالة وشراكات منتجة.
وفي السياق الإقليمي، اعتبر أن لبنان يجب أن يُعامل كشريك لا كأزمة دائمة، مشيراً إلى إمكان بناء تكتل اقتصادي مشرقي يضم العراق وسوريا والأردن ولبنان.
وختم بتأكيد الحاجة إلى إعادة هيكلة النظام السياسي اللبناني وفق مبادئ اتفاق «الطائف»، لمواجهة التحوّلات الجيوسياسية المتسارعة.
الخطاب يتجاوز الطابع الإنشائي أو العاطفي، حيث لم يكن بياناً سياسياً تقليدياً، بل خطة طريق تحتاج إلى إرادة، ويطرح مقاربة متقدمة وحديثة للسيادة، ترتكز على الاقتصاد والطاقة والمؤسسات، وليس فقط على الأمن والحدود، على قاعدة دور لبنان كعنصر فاعل في الشرق الأوسط، بدل أن يُختزل في كونه ضحية أو عبء.
وفي هذا السياق، أكد أن لبنان لم يعد مجرد ضحية للفساد أو رهينة لحزب مسلّح، بل أصبح ميدان اختبار حقيقي لقدرة الدول الضعيفة على استعادة ذاتها، مع التشديد على أن لا مخرج إلّا من خلال مؤسسات حقيقية، وقضاء مستقل، وسياسة طاقة شفافة تُعيد للبنان مكانته «الجيو-اقتصادية» في شرق المتوسط.
أكثر ما يلفت في الخطاب هو البُعد الإقليمي، حيث أنه لا يرى لبنان معزولاً، بل جزءاً من مشهد مشرقي قابل لإعادة التكوين: اتحاد اقتصادي ثقافي بين العراق وسوريا والأردن ولبنان، بإشراف دولي رشيد، يعيد بناء الهلال الخصيب على أسس إنتاجية لا مذهبية، معتبراً أنه في حال صدق المجتمع الدولي في مساعدة لبنان، فلن يكون ذلك عبر مزيد من المؤتمرات، بل عبر دعم حقيقي لبناء دولة تمتلك القدرة على قول «نعم» و«لا» بكرامة.
في زمن تتلاشى فيه الحدود بين الصراعات الداخلية والتجاذبات الإقليمية، جاء خطاب بهاء رفيق الحريري من لندن، ليضع إصبعه على الجرح اللبناني، ويقدّم رؤية بديلة لما يمكن أن يكون عليه لبنان، لا ما آل إليه، طارحاً مفهوم «السيادة الاستراتيجية المرنة»، وهي فكرة تواكب واقع القرن الحادي والعشرين، حيث لا تُقاس قوة الدول بمدى سيطرتها الأمنية، بل بمدى قدرتها على اتخاذ قراراتها المستقلة وسط تعقيدات المصالح الدولية. وهذا المفهوم يتحدّى الثنائيات التقليدية: بين الضعف والاستقرار، بين الإصلاح والترقيع، بين الشراكة والتبعية.
وختم بالإشارة إلى التحوّلات المتسارعة بعد تصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران، حيث يعتبر أن الوقت حان لإعادة هيكلة النظام السياسي اللبناني ضمن روح ومبادئ «إتفاق الطائف»، وليس تجاوزه…
السؤال الذي يطرح نفسه، هل أعدّ بهاء رفيق الحريري العدّة لإنتاج مشروع وطني إنقاذي تحديثي يحاكي التطورات والتحدّيات التي تواجه لبنان إزاء الأحداث المتسارعة في المنطقة، على غرار المشروع الوطني الإنقاذي الذي أطلّ من خلاله والده الشهيد عندما وقع الإختيار عليه لتولّي رئاسة الحكومة؟
لا شك أن الجواب اليقين عند بهاء الحريري وحده.
لكن المؤكد من خلال كلمته ومشاركته في طاولة نقاش خاصة نظّمتها «جمعية الشرق الأوسط» في العاصمة البريطانية لندن، ومن خلال المقاربة الشاملة والدقيقة التي تناول بها الوضع اللبناني (تشريحاً مفصّلاً بدقّة، ومقترحات حلول ريادية ومتقدمة)، بعدما أجرى مراجعة نقدية مسؤولة وبموضوعية لكل المرحلة التي أعقبت الإغتيال المزلزل للرئيس الشهيد، بكل محطاتها ومفاصلها، ليبني عليها رؤيته «المتجددة» للواقع اللبناني، إستناداً إلى عناوين وتوجهات الأسس والمرتكزات الصلبة لمشروع الرئيس الشهيد، الذي ما يزال حاجة وطنية ملحّة ومنطلقاً أساسياً لإنقاذ لبنان قبل وقوعه النهائي في أسفل الدرك الأسفل من الإنهيار الكامل.
إذا قرر بهاء رفيق الحريري دخول معترك السياسة اللبنانية في أصعب وأدق وأخطر مرحلة يشهدها لبنان والإقليم، فإن هذه «المغامرة» (بالمعنى الإيجابي) لن تتوفر مقومات نجاحه إلّا من خلال مبادرة وطنية شاملة وجامعة، تحظى بثقة عواصم القرار العربية والغربية المعنية بالملف اللبناني، وبالتالي تلقى الصدى الإيجابي والإرتياح في مختلف الأوساط اللبنانية، لا سيما جمهور الرئيس الشهيد رفيق الحريري، المتعطش للعودة الى الجذرو والأصول لمشروعه الوطني، الذي يرون فيه ملاذهم الآمن.