من على شرفة مقهى بسيط في تطوان، يجلس بيير، فرنسي متقاعد في عقده السابع، يحتسي قهوته بهدوء ويحدّق في الأفق حيث البحر يلامس الجبال. “لم أكن أتخيل أن بإمكان معاشي أن يمنحني هذا النوع من الحياة… في باريس، كنت بالكاد أعيش”. عبارة تكثّف قصة مئات الأوروبيين ممن اختاروا المغرب ليس فقط كملاذ مؤقت، بل كوطنٍ ثانٍ.
نهاية المشوار المهني… وبداية الحلم
مع تفاقم الأوضاع المعيشية في أوروبا وارتفاع تكاليف الحياة، بدأ المتقاعدون يبحثون عن بدائل تُعيد إليهم بعضًا من الكرامة المالية. لكن الأمر لم يكن يتعلق بالمال فقط، بل بنمط حياة جديد…حيث الطقس الدافئ، والأسواق المفتوحة، وابتسامة الناس.
المغرب، بحكم الجغرافيا والتاريخ والثقافة، لم يكن بعيدًا عن هذا الحلم. وفي السنوات الأخيرة، لم تعد مراكش وحدها وجهة الأجانب، بل برزت مدن كطنجة وشفشاون وتطوان كخيارات مفضّلة للعيش الهادئ.
اتفاقيات قديمة.. وأبواب مفتوحة
ما لا يعرفه كثيرون هو أن المغرب وإسبانيا وقعا منذ عام 1982 اتفاقًا يسمح للمواطنين بالتقاعد في البلد الآخر، شرط احترام القوانين المحلية. في إسبانيا، بلوغ سن 66 و4 أشهر هو شرط المعاش الكامل. في المغرب، يكفي سن 60 مع 9 سنوات من العمل. لكن في حالة المتقاعدين الأجانب، الأمر يتعلق بإثبات دخل ثابت (500 أورو على الأقل)، وتغطية صحية خاصة، وطلب بطاقة إقامة… وهو ما لا يشكّل تحديًا كبيرًا أمام الكثيرين.
أكادير… شمس دافئة وتسهيلات ضريبية
على بعد آلاف الكيلومترات من باريس أو مدريد، تقف أكادير شامخة، كما لو أنها اكتُشفت من جديد، ولكن هذه المرة من طرف المتقاعدين. وفق قناة TF1 Info، اختار أكثر من 4000 فرنسي الاستقرار في المدينة خلال السنوات الأخيرة، مستفيدين من امتيازات ضريبية، وخدمات مريحة، وأجواء شمسية لا تنقطع.
يقول جان-لويس، وهو متقاعد فرنسي: “في أكادير، أدفع 800 أورو للإيجار، وأعيش أنا وزوجتي بـ2800 أورو شهريًا، نأكل جيدًا، ونمشي على الشاطئ، ونشعر أننا نعيش، لا نُستهلك”. وفي السوق المحلي، تُعرض الطماطم والفواكه الموسمية بثمن لا يتجاوز نصف أورو للكيلوغرام، فيما لا تتجاوز فاتورة الكهرباء الشهرية 50 أورو.
لكن المغرب لا يبيع فقط دفء الشمس وتكاليف الحياة المنخفضة. إنه يقدّم تجربة حياتية مختلفة… حيث الحياة أبطأ، والروابط الاجتماعية أعمق، والماضي حاضر في كل جدار. في شفشاون، المدينة الزرقاء، حيث تتعانق الجبال مع السكينة، يجد الأوروبيون أنفسهم في حضرة الجمال الصامت، والهدوء الذي يعيد ترتيب الداخل.
وتحذر الخبيرة الإسبانية لورا مارتينيز المقيمة بتطوان من التسرع: “الاستقرار هنا ليس قرارًا عاطفيًا فقط، بل تجربة ثقافية… يجب زيارته أولاً، ثم اتخاذ القرار”. غير أن من خاضوا هذه المغامرة لا يندمون، كما تقول.
تحديات تحت الشمس
رغم هذا المشهد الوردي، لا تخلو الصورة من ظلال. فقد سجّلت أكادير درجات حرارة قياسية وصلت إلى 50 درجة مئوية صيف 2023، كما تواجه المدينة ضغطًا على مواردها المائية بسبب التوسع العمراني والزراعة الموجهة للتصدير.
ولكن كل ذلك لم يثنِ المتقاعدين. فهم يدركون أن لا مكان كاملاً في العالم، ولكن في المغرب، وجدوا ما يكفي ليعيشوا بشيء من السلام. وكأنهم أدركوا أن التقاعد لا يعني بالضرورة نهاية الحياة، بل يمكن أن يكون بدايتها الحقيقية.
المغرب… ليس مجرد وجهة سياحية
في المحصلة، المغرب لم يعد وجهة لأسابيع قليلة من الشمس في عز الشتاء الأوروبي، بل صار محطة لرحلة حياة جديدة. بلد يقدم فرصة نادرة: أن تبدأ من جديد، في مكان لا يبخل بشمسه، ولا ببحره، ولا بودّ ناسه.
بين الأزقة الضيقة لطنجة، وشرفات أكادير المطلة على الأطلسي، يسير المتقاعدون الأوروبيون بخطى هادئة… لكنهم يعرفون، في قرارة أنفسهم، أنهم اختاروا جيدًا.