انطلقنا “سحرًا جدًا” من بيروت نحو أعالي جرود البترون، إلى تلك اللؤلؤة المتربّعة بين الجبال، دوما التي انتُخبت أفضل القرى السياحية في العالم، لا لجمال حجارتها فقط، بل لنقاء روحها. هناك يتربّع الدير كمنارة روحية، كجبلٍ صغير تجلّى عليه الربّ لخاصّته.
المسافة التي تفصلنا عن الدير تذوب في حرارة الاشتياق، وعند عتبة الدير تسقط عنك كل أثقال الطريق، ويُستبدل التعب بسلامٍ داخليّ ناعم كنسمة صيف فوق حقول القمح. هناك، حيث الحشمة والوقار هما القاعدة، تهمس جدران الكنيسة بأسرار الصمت المقدّس، وتستقبلك الراهبات بوجوهٍ ملؤها نور القيامة، فترى فيهنّ بشرًا صاعدين إلى السماوات.
التراتيل تنبعث، والنغمات تتشابك بخشوعٍ عميق، ترتفع الجوقات لتلتقي جوقات الملائكة، ويصبح لحن الأرض مرآة لصوت السماء. أمّا القدّاس الإلهي، فكان كالعنصرة الجديدة، انسكبت نعمة الروح القدس بلغاتٍ مختلفة: العربية، اليونانية، الإنكليزية، والإسبانية، كلّها صارت لسانًا واحدًا يمجّد الرب، في وحدة الكنيسة الجامعة.
الفرح اكتمل بحضور وفد إنطاكي من أبرشية أميركا الشمالية، بإمامة سيادة المطران سابا (إسبر) الذي ترأس قدّاس مولد السابق الكريم، بطلب من راعي أبرشية جبل لبنان، سيادة المطران سلوان (موسى)، وبتشاركٍ روحيّ مع راعي أبرشية زحلة وبعلبك المطران أنطونيوس (الصوري)، وعدد وافر من الآباء الكهنة والشمامسة.
في عظته المفعمة بالروح، تأمّل المطران سابا في سيرة السابق المجيد، يوحنا المعمدان، نبيّ البرّ والصوت الصارخ في البرّيّة، وأهدى، بفيض من المحبّة، أيقونة القديس روفائيل هواويني إلى مدبّر أخوية الثالوث القدّوس، هذا القدّيس الأنطاكي، رسول الشتات الأرثوذكسي في القارّة الأميركية، ومؤسّس الكنائس وباذل النفس من أجل الخراف المشتّتة، الذي أُدرج اسمه في سنكسار القدّيسين في مجمع أنطاكية المُنعقد في البلمند سنة ٢٠٢٣.
حجارة الدير العتيقة شهِدت على لقاءٍ أنطاكيّ بامتياز، لقاءٍ حمل في قلبه جراح أنطاكية الحبيبة، التي كانت حاضرة في كل صلاة وعلى كل لسان. وارتفعت الأصوات في الكنيسة، من قلوب دامعة، تترنّم من أجل شهداء كنيسة مار إلياس في دمشق، المرتفعين على مذبح الشهادة، تردّد الجوقة بنبرات مصلوبة: “فليكن ذكرهم مؤبّدًا!”
ثم، وكما في الكنيسة الأولى، كُسِر الخبز بعد القدّاس، والتقى المؤمنون على مائدة محبّة جمعت كل المشاركين في القدّاس. وقبل الوليمة الجسدية، كانت هناك زادٌ روحيٌّ أعطاه الأرشمندريت توما بيطار لأعضاء الوفد الأميركي، بكلماتٍ ملؤها الحكمة والتقوى، أُصغيت إليها كما يُصغى إلى نبوءة حيّة.
ساعات قليلة أمضيناها في هذا المكان، لكنها كانت كالأبدية المصغّرة. الوقت يذوب في أتون الصلاة، والصمت يصبح لغة، والحضور يتحوّل إلى ذبيحة. وهكذا يتجلّى سرّ أنطاكية، حين تتّحد أبرشياتها وكنائسها في ذبيحةٍ إلهية واحدة، في كلّ زمان ومكان.
ولا تخرج من هناك كما دخلت. فالدير يغرس فيك شيئًا لا يُمحى. تغادر وأنت محمولٌ بنعمة، تتردّد في داخلك صلاة يسوع:
“أيها الرب يسوع المسيح، ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ.”
وتهمس في سرك: طوبى لمن سكن هناك، لأن الحياة الرهبانية ليست هروبًا من العالم، بل هي ولادة جديدة في قلبه. هي حياة فصحية، نبويّة، رسولية، تأملية، حياة توبة ومجد وسهر، حياة تمجيد دائم، كمثل الملائكة.
ففي تقليدنا الأرثوذكسي، الرهبنة ليست انقطاعًا بل اتصال، ليست انسحابًا بل انسكاب. والصليب هناك لا يُرفع بثلاثة مسامير بل بأربعة: العفّة، الفقر، الطاعة، والصبر.
ومَن عاش هذه النذور، شهد بقداسته على رجاء القيامة، وصار نورًا لأخوته، ودليلاً إلى الملكوت.
فلنُردّد معًا: اجعلنا يا ربّ مستحقّين رحمتك، وثبّت فينا صلاة يسوع، كل حين، آمين.