عاد مشروع إحداث بنك بريدي في تونس إلى الواجهة من جديد، بعد أن أحال مكتب مجلس نواب الشعب المقترح التشريعي عدد 82 لسنة 2025 إلى لجنة المالية والتخطيط والتنمية، للنظر فيه وسط ترقّب شعبي واهتمام سياسي واقتصادي واسع.
ويُعدّ هذا المشروع محور نقاش متجدد بين الأطراف الحكومية والتشريعية، في ظل حاجة ملحّة لتطوير آليات الإدماج المالي وتوسيع قاعدة الخدمات البنكية للفئات الهشة والمحرومة من المعاملات البنكية التقليدية.
مسار طويل من التعطيلات
تعود جذور الملف إلى نهاية ديسمبر 2019، حين تقدّمت مؤسسة البريد التونسي بمطلب رسمي إلى البنك المركزي لإحداث بنك بريدي برأسمال يُقدّر بـ70 مليون دينار. غير أن البنك المركزي سجّل نقائص جوهرية في الملف، منها غياب خطة عمل واضحة، ونقص في الحوكمة والموارد البشرية والتقنية، إلى جانب غياب الإطار القانوني الضروري لتحويل الحسابات البريدية إلى حسابات مصرفية تخضع للرقابة.
في تصريح سابق بتاريخ 15 أفريل 2023، اعتبر سامي المكي، الرئيس المدير العام للبريد آنذاك، أن المشروع يمثل تطورًا طبيعيًا للمؤسسة، خاصة أن 83% من رقم معاملاتها يتعلق بالخدمات المالية، إلا أنه أقر بتأخّره نتيجة لتداعيات جائحة كوفيد-19 والتحولات السياسية والاقتصادية.
شروط واضحة من البنك المركزي
ينص الفصل 27 من القانون عدد 48 لسنة 2016 على جملة من الشروط الصارمة لمنح الترخيص البنكي، أبرزها:
وجود خطة عمل واضحة ومفصّلة.
نظام معلوماتي ومحاسبي متطوّر.
حوكمة قوية وآليات رقابة فعالة.
تأهيل البنية القانونية للخدمات المصرفية.
خضوع تام لرقابة البنك المركزي.
رغم مراسلة البنك المركزي للبريد في نوفمبر 2020، لم يرد أي تحديث رسمي للملف، ما عطّل مسار المشروع وجمّد ترخيص الإنشاء.
لجان مشتركة ومداولات دون نتائج
سعيًا لتجاوز هذه العراقيل، تمّ تكوين لجنة وطنية مشتركة ضمّت ممثلين عن البنك المركزي ووزارتي المالية وتكنولوجيا الاتصال والبريد، وعقدت عدة اجتماعات سنة 2020، لكنها لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة، وبقي الملف معلّقًا.
أكّد النائب محمد زياد ماهر، عضو لجنة المالية، أن المقترح الجديد يُعد مبادرة جماعية لتسريع الإصلاح المالي وتحقيق الإدماج الاقتصادي للفئات المهمشة. ومن المنتظر أن يُناقش المشروع يومي 15 و16 جويلية بحضور ممثلين عن البنك المركزي والبريد التونسي وهيئة التمويل الصغير، ورئاسة الحكومة.
وتتضمن المبادرة أن يكون البنك البريدي مؤسسة عمومية موجّهة بالأساس إلى الفئات الضعيفة والعاملين خارج القطاع المنظم، بأسعار خدمات رمزية. كما يُرتقب أن يُحدث المشروع ديناميكية تنافسية في السوق البنكية عبر قروض صغيرة ومتوسطة الحجم.
موقف رسمي: دعم مشروط
في 2 ماي 2025، وردا على سؤال كتابي لاحد النواب ، حسم وزير تكنولوجيات الاتصال، سفيان الهميسي، الجدل القائم حول مشروع البنك البريدي، مؤكدًا أنه “مشروع استراتيجي لا يمكن البتّ فيه في إطار قانون مكافحة الإقصاء المالي فقط”. وأوضح أن النظر فيه يجب أن يتم ضمن رؤية شاملة تراعي:
أهمية موارد الادخار للمالية العمومية.
استراتيجية تطوير القطاع البنكي والمالي.
أهمية الخدمات البريدية.
موقع البريد التونسي في قطاع تكنولوجيا الاتصال والمعلومات.
وأضاف الوزير أن البريد التونسي يُسيّر صندوق الادخار الوطني التونسي لفائدة خزينة الدولة، وأن إيداعات الحرفاء مضمونة وتُعتبر مصدرًا رئيسيًا لتمويل الميزانية. كما شدد على أن إحداث بنك أو تحويل مؤسسة إلى مؤسسة بنكية يخضع لترخيص لجنة التراخيص بالبنك المركزي وفقًا للقانون عدد 48 لسنة 2016 المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية.
وخَلُص إلى القول إنّ الملف لا يزال قابلًا للدرس، مع ضرورة تشريك كل الأطراف المتدخلة وأخذ التأثيرات المحتملة على التوازنات المالية بعين الاعتبار، خاصة في ظل الظرف الاقتصادي الحساس الذي تمر به البلاد.
وفي أوت 2023 أكد مصدر رسمي من البنك المركزي لـ”تونيزي تيليغراف” أن المؤسسة لا ترفض المشروع، لكنها تنتظر ملفًا متكاملاً يستوفي الشروط القانونية والتنظيمية، ليُعرض على لجنة التراخيص ويتخذ فيه القرار النهائي.
وفي انتظار تحرك فعلي من الإدارة العامة للبريد التونسي، يبقى مشروع البنك البريدي معلقًا بين حماس تشريعي وشغف اجتماعي… وبيروقراطية إدارية خانقة