إذا كان هناك ما يشبه الإجماع بين هواة الموسيقى الكلاسيكية لا سيما الرومانطيقية منها، فهو على أن الكونشرتو الوحيد للكمان والأوركسترا الذي ألفه بيتهوفن عام 1806 هو الأعظم في هذا المجال والأجمل والأكثر رومانطيقية… وعقلانية في الوقت نفسه فإن ثمة إجماعاً آخر لا يبتعد منه كثيراً يرى أن المكانة نفسها تقريباً يمكن أن يحتلها كونشرتو آخر للكمان والأوركسترا ألف بعد كونشرتو بيتهوفن بنحو ثلاثة أرباع القرن، يكاد يكون الوحيد الذي يضاهيه قوة ورسوخاً في بعده الرومانطيقي، وإن كان يفترق عنه بالنسبة إلى البعد العقلاني. فهذا الأخير وهو الذي ألفه تشايكوفسكي عام 1878 ويحمل عادة الاسم التعريفي نفسه، يبدو أكثر انغماراً بالعاطفة من كونشرتو بيتهوفن، وأكثر دنواً من دينامية تكاد تكون غنائية/ راقصة إلى حد ما. ولعل مزاج كل من الموسيقيين الكبيرين، لحظة انكباب كل منهما على تأليف عمله، هو ما يقف في خلفية ذلك التمايز بينهما، أو لعل الأمر يعود بصورة عامة إلى عقلانية بيتهوفن الذي عاش زمن كانط وهيغل والتنوير الألماني، مقابل عواطفية تشايكوفسكي الذي عاش في زمن التقلبات المزاجية الكبرى خلال النصف الثاني من القرن الـ19. ومهما يكن الأمر، فلا بد من الإشارة هنا إلى أن الموسيقيين الكبيرين التقيا على عدم كتابة أي كونشرتو آخر للكمان مما أبقى عمل كل منهما وحيداً في مساره الإبداعي، يشاركان في هذا عدد قليل من زملاء كبار لهما لم يكتب كل منهم بدوره سوى كونشرتو واحد للكمان والأوركسترا (من برامز إلى آلبن برغ، ومن مندلسون إلى خاتشادوريان…). فلماذا اقتصر إنتاج كل من هؤلاء على قطعة واحدة في هذا المجال؟ سؤال تصعب الإجابة عنه.
قطعة متعبة
مهما يكن، مما يهمنا هنا هو قطعة تشايكوفسكي التي تبدو الأطول بالنسبة إلى هذا النوع الموسيقي إذ إن معدل الدقائق التي يستغرقها عزفها يتمحور من نحو 35 دقيقة، مما يجعلها إحدى القطع المتعبة بالنسبة إلى عازف الكمان الذي يؤديها، أكثر من أية قطعة أخرى. غير أن هذا الأمر لا يبدو أنه ردع كبار العازفين عن تقديمها وبشكل متواصل، بحيث إن لها اليوم مئات التسجيلات باعتبارها من الأكثر شعبية في هذا السياق. بل إن شعبيتها تتجاوز هذا لتدخلها في عدد من الفنون الأخرى، أحياناً بوصفها تيمة رئيسة، وفي أحيان أخرى كقطعة تزيينية تملي على المتفرجين عاطفة ما… وهو أمر نلاحظه عبر استخدام أجزاء منها في أفلام كورية أو صينية أو في سينما أوليفر ستون، أو حتى كموضوع سخرية في فيلم لفريق “مونتي بيتون”. والحال أن كل هذه الأعمال، إذ لا تهتم بالقطعة بكاملها، غالباً ما تقتطع نهاية الحركة الأولى وهي شديدة الغنائية وتعد من أكثر مقطوعات تشايكوفسكي شعبية وتقدمها في أحيان كثيرة بمفردها، أو تأخذ مساحة عريضة من الحركة الثانية التي غالباً ما تسمى “كانزونيتا” لفرط ما فيها من نزعة غنائية.
3 حركات
وينقسم هذا الكونشرتو إلى ثلاث حركات أولاها حركة “أليغرو موديراتو” والثانية “آندانتي غنائية الطابع”، أما الثالثة وهي الأضعف على أي حال في عرف كبار النقاد فهي من إيقاع “آليغرو فيفاسيمو”. مع ملاحظة أن الحركتين الثانية والثالثة تكادان تبدوان حركة واحدة متواصلة في غياب أي فاصل بينهما على عكس ما هو الأمر عليه بين الأولى والثانية، وهو ما يشجع عادة على التعامل الخاص مع الجزء الثاني من الحركة الأولى، وهو الجزء الصاخب الذي يصل فيه أداء الكمان المنفردة إلى ذروة تألق ربما تكون هي، إذ تدخل على السياق بشكل مباغت مباشرة بعد التقديم الذي يكاد يكون بطيئاً، السر الحقيقي الكامن خلف الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها هذا الكونشرتو الاستثنائي منذ ما يزيد على قرن ونصف القرن.
قوة ونعومة
إذاً، في هذا الكونشرتو الذي هيكله تشايكوفسكي على نسق الكونشرتات الكلاسيكية الكبرى، تبدأ الحركة الأولى بتلك المقدمة التي باتت واسعة الشهرة لبطئها وما يبدو على كتابتها من حيرة مزيفة أول الأمر، ليتبين بسرعة أن المقصود كان تمهيد الطريق للكمان فتؤدي التيمة الرئيسة للعمل من حيث لا يتوقع أحد، وبشكل يتسم بدفء غريب قبل أن يصل إلى ذروة قوته في تكرار التيمة نفسها تمهيداً لدخول الأوركسترا بقوة تؤدي التيمة بدورها. وهذه القوة التي تؤدي بها الأوركسترا ما كان يبدو في منتهى النعومة مع الكمان المنفردة، يوصلنا بعد هنيهة نلتقط فيها أنفاسنا إلى “الكانزونيتا” التي تسم الحركة الثانية من أولها إلى آخرها، وستكون، كما أشرنا، مع مرور الزمن، واحدة من أشهر ألحان تشايكوفسكي الإيقاعية وأكثرها بالتالي شعبية، ربما إلى جانب فالس البجعات في “بحيرة البجع”. وبالنسبة إلى هذه الشعبية ثمة من بين الدارسين من يعزوها إلى سهولة تأدية القطعة مقارنة بالصعوبة التي يتسم بها تقديم الجزء المنفرد من الحركة الأولى، الذي يحدد، أصلاً، التيمة الرئيسة للعمل وإيقاعه العام. أما الحركة الثالثة التي تتسم بطابع يمكن وصفه بـ”الطابع الشعبي” الروسي الخالص، فإنه بدوره يبدو أقرب إلى الموسيقى الراقصة مما يجعل كثراً من المؤدين يجمعونه في بعض الأنطولوجيات مع الرقصات السلافية حتى وإن كان الحس الموسيقي السليم يفيدنا بأنه ليس واحداً منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حظوة الحركة الثانية منفردة
إذا كان هذا العمل قد لقي دائماً ترحيباً عاماً، فإن الخبراء لم يبدو أبداً فائقي الترحيب به. ويقول لسان حالهم إن الحركتين الأولى والثالثة، ومن ناحية الكتابة الموسيقية “القانونية” وقواعدها، يمكن أن تعتبرا منتميتين إلى ذوق موسيقي متسرع ومتساهل مما يفسر بالنسبة إلى هؤلاء الخبراء شعبية العمل ككل. ولكن في المقابل يكاد يكون ثمة إجماع لدى هؤلاء العلماء أنفسهم، على أن الحركة الثانية تظل من أجمل ما كتب تشايكوفسكي في حياته، وربما يعود ذلك إلى ما يطغى عليها من ميلوديا مفعمة بحنين غامض وشجن خفيف بل حتى نزعة أنثوية لا يمكن السهو عنها. علماً أن ذلك الشجن نفسه نجده ماثلاً على الدوام في أجمل أعمال تشايكوفسكي وأقواها كطابع وبصمة لا يخطآن… والحال أن هذا يحيلنا إلى تلك الذاتية المفعمة التي دائماً ما طبعت موسيقى تشايكوفسكي، لا سيما منها تلك التي نجدها في أعمال كتبها في أوقات صعبة من حياته العاطفية. وينطبق هذا بتأكيد “الكونشرتو للكمان والأوركسترا” الذي نحن في صدده هنا، والذي قد يكون من المهم أن نذكر أن الموسيقي كتبه وهو مقيم في بلدة كلارنس السويسرية على ضفاف بحيرة جنيف حيث كان يسعى إلى نسيان زواجه الكارثي من أنطونينيا ميليوكوفا. فهناك في البداية كان قد انهمك في تأليف ذلك الكونشرتو الصعب جداً للبيانو والأوركسترا، لكنه سرعان ما أحس أنه في حاجة إلى شيء آخر، إلى كتابة عمل أقل عقلانية وأكثر تعبيراً عن روح الحيرة التي كانت تتملكه إزاء عواطفه الحقيقية، هو الذي سيقول كثر من الدارسين لاحقاً، ومنهم ديفيد براون في كتابه “تشايكوفسكي سنوات التأزم” (1983) بخاصة مايكل ستينبرغ (“الكونشرتو”، 1989)، أن حيرته لم تكن بين أنطونينا وامرأة أخرى بل حول توجهات مثلية لديه كان موضوعها العازف يوسف كوتيك الذي لاقاه حينها في كلارنس فأراد تشايكوفسكي أن يهديه العمل لكنه رفض وبارح المكان رافضاً حتى أداء العمل. فكان أداؤه الأول من طريق العازف ليوبولد أوير الذي انتهى تشايكوفسكي إلى إهدائه إياه بعدما كتب له أيضاً “السيرينادا الحزينة” التي لم تصل أبداً إلى شهرة الكونشرتو.
تعديلات متواصلة
وفي نهاية الأمر سيكون الأداء العام الأول لهذا الأخير في فيينا عام 1881 من جانب أدولف برودسكي تحت قيادة هانز ريختر، لينتهي الأمر بتشايكوفسكي إلى إحداث تبديل جديد في إهداء العمل إذ صار برودسكي أخيراً هو صاحب الإهداء! بقي أن نذكر أن ردود الفعل النقدية الأولى على تقديم هذا “الكونشرتو” أتت باردة لا سيما بقلم واحد من النقاد الموسيقيين الأكثر نفوذاً في ذلك الحين، إدوارد هانزليك الذي وصف “الكونشرتو للكمان والأوركسترا” بأنه “طويل أكثر مما يجب ومدع”. غير أن بيوتر تشايكوفسكي (1840 – 1893) نفسه لم يبال أبداً بذلك النقد القاسي بل واصل تقديم هذا العمل، محدثاً بين الحين والآخر تعديلات طفيفة فيه ليصل تقديمه إلى ذروته مع العازف كاريل هالير الذي قدمه في لايبزيغ عام 1888 في حضور المؤلف الذي وصف التقديم بأنه لا ينسى.

