كل جماعة دينية أو سياسية أو جهوية أو قبلية أو مهنية، تستدعي ميراث الأخويات المُغلقة على أتباعها، وتحافظ على تراتبية معينة بين أفرادها، وتُعطي سلطة مطلقة لقمتها على قواعدها تبلغ حد التقديس والطاعة العمياء، هي مؤشر على أزمة وهشاشة الإنسان في المجتمع الذي تنتشر فيه.
وهي مؤشر أيضا على فشل مؤسسات الدولة في بناء الإنسان وتحصينه بالنضج النفسي والعقلي والعلم والمعرفة والوعي التاريخي والسياسي والديني والثقافي الصحيح، وجعله قادرًا على مواجهة تحديات ومشكلات الواقع والعصر.
ولا يخفى على أحد اليوم أن وجود هذه الجماعات والقبليات المُستحدثة التي تجعل الانتماء والولاء للجماعة والقبيلة أهم وأكبر وأعمق من الانتماء والولاء للدولة، يتعارض مع متطلبات الدولة الوطنية المدنية الحديثة التي تمثل الكل الجامع، والتي توحد بين أفرادها تحت مفهوم المواطنة، وتسمح تحت مظلة القانون ومراقبة وإشراف مؤسسات وأجهزة الدولة بالعمل المدني والاجتماعي والسياسي وحرية التجارة والفكر والاعتقاد.
كما لا يخفى على احد أن انتشار هذه الجماعات والأخويات والقبليات يمثل تهديدا واضحا لأمن المجتمع وتماسك الدولة؛ لأنها تصنع مراكز قوى وجماعات مصالح مترابطة، تُمزق بوجودها وحدة المجتمع، وتُعمق الفجوة والصراع بين أفراده ومكوناته وطبقاته، وتضعف مشاعر الانتماء والولاء الوطني لدى الموطنين.
ولهذا يجب أن تسعى الدولة بما تملكه من مؤسسات علمية وبحثية وأمنية لرصد ومراقبة تلك الجماعات المختلفة، وتحليل أسباب ودلالات وجودها، وفهم أدبياتها وسلوكها وأهدافها، ومعرفة ارتباطاتها الداخلية والخارجية، وتحديد مخاطرها، وتفكيكها إن تتطلب الأمر ذلك، حتى لا ندفع مستقبلًا ثمنًا باهظًا لوجودها وتوحش وامتداد نفوذها.
وليكن لنا في حالة «أخوية جماعة الإخوان المسلمين» نموذج دال على مخاطر هذه الجماعات، فهي الجماعة التي صار أتباعها ومنتسبوها وقادتها وقواعدها، يؤمنون بأن الانتماء والولاء للجماعة مُقدم على الولاء والانتماء للدولة، وصارت قواعدها أداة في يد قياداتها للضغط على الدولة وابتزازها وتهديد مصالحها، بعد أن تحولوا بفضل مناهج تربية الجماعة وأدبياتها إلى عقول مغيبة لا تفكر، وتقبل بشكل سلبي التعليمات والإرشادات من القادة تحت قاعدة: لا تجادل ولا تناقش أنت إخواني.
وهذه المخاطر التي عشناها ودفعنا أثمانا غالية لمواجهتها أمنيًا، تحتاج أيضًا إلى مواجهة فكرية وثقافية، وإلى جعل «بناء الإنسان المصري» أولوية قصوى للدولة ومؤسساتها المختلفة؛ لأن الإنسان الواعي الناضج نفسيًا ومعرفيًا، هو حجر الزاوية في بناء الدولة، وهو القادر على حمايتها والحفاظ على وجودها ووحدتها وإنجازاتها واستقرارها ومؤسساتها، من خلال امتلاكه الوعي الوطني والعلمي والتاريخي والسياسي والثقافي والديني الصحيح، وقدرته على التلقي الإيجابي للخطابات السياسية والدينية والإعلامية المختلفة في عصر السماوات المفتوحة وآليات التزييف العميق، والتمييز بوضوح ودقة بين الخطابات التي تصنع خيره الشخصي، وتُحافظ على الوطن ومقوماته ووحدته واستقراره وأمنه، وتصنع تقدمه وازدهاره، وبين الخطابات التي تبيع له الوهم، وتفسد حاضره ومستقبله، وتجعله في حالة غيبوبة عقلية، وأداة في يد جماعات مصالح دينية وسياسية ومراكز قوى وقبليات مُستحدثه، تُمزق بوجودها ودورها وحدة وتماسك المجتمع.
وبناء الإنسان بهذا المعنى الذي يجعله البنية التحتية الأكثر رسوخًا وأهمية للدولة، هو في الأساس مسؤولية مؤسسات الدولة، ممثلة في وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي، والثقافة، وهيئات الإعلام؛ فهي المنوط بها ترسيخ حضور مفهوم المواطنة، ومفهوم دولة المؤسسات في السياق والوعي العام. وهي المنوط بها أيضًا بناء الإنسان المصري نفسيًا وفكريا وثقافيًا، وامتداده بالقدرة على التفكير العلمي والنقدي، وجعله قادرًا على فهم الواقع والعصر ومواجهة مشكلاته الخاصة والعامة، والسعي إلى حلها وتجاوزها بشكل علمي وعقلاني، بدلًا من الهروب منها والارتماء في حضن جماعة أو أخوية تهبه إحساسًا زائفًا بالوجود والهوية والقوة، لكنها تستلب حرية تفكيره وعقله، وتفسد حاضره ومستقبله، وتجعله أداة في يد قوى ظاهرة أو خفية، ووسيلة لإضعاف وتفكيك المجتمع والدولة من الداخل.
