لعبة رسم تعاونية وُلدت من ليالى باريس فى عشرينيات القرن الماضى أصبحت حيلة لدى الفنانين السرياليين، بعد تمرير الورقة المطوية ذهابًا وإيابًا، تفتحها لتكشف بسعادة عن رجل يرتدى قبعةً مستديرة، بثديين ضخمين، وتنورة، وأرجلٍ تشبه مخالب الأخطبوط، هذه هى «الجثة الرائعة»، وهى لعبة فنية جماعية ابتكرها السرياليون، تقوم فكرتها على أن يساهم كل فنان بجزء من رسوماته على ورقة مطوية، ثم يمررها لشخص آخر لرسم الجزء التالى، لتكشف الورقة فى النهاية عن شكل هجين أو مخلوق خيالى مُركب من أجزاء غير مترابطة.
«الجثة الرائعة» حيلة سريالية غيّرت تاريخ الفنوكشف الكاتب أندريه بريتون، مؤسس المجموعة السريالية فى باريس عام ١٩٢٤، عن آلية تطوير السرياليين لعبة الجثة الرائعة «Cadavre Exquis» فى مجلة السريالية «La Révolution surréaliste» عام ١٩٢٧، وربط بريتون مفهوم اللعبة بـ«المنزل القديم» فى ٥٤ شارع شاتو فى مونبارناس، حيث كان الممثل الفرنسى مارسيل دوهاميل يستضيف بريتون وأصدقائهما الشعراء بنيامين بيريه وجاك بريفير والشاعر إيف تانجوى بانتظام، فى «قاموس السريالية المُختصر»، الذى وضعه بريتون والشاعر بول إيلوار عام ١٩٣٨، وعُرِّفت لعبة «الجثة الرائعة» بأنها «لعبة يتعاون فيها عدة أشخاص لتأليف عبارة أو رسم، ويطوون الورقة بحيث لا يرى أحد التعاون السابق».
«الجثة الرائعة» حيلة سريالية غيّرت تاريخ الفنتمحورت اللعبة حول أحد الأشياء المفضلة لدى السرياليين: التجاور، وسرعان ما تطورت اللعبة من مجرد تسلية كتابية إلى أسلوب إبداعى تعاونى، حيث احتفى الكثير من فن المجموعة وشعرها بلقاءات غير متوقعة بين أشياء عشوائية مثل «هاتف جراد البحر» لسيلفادور دالى (١٩٣٦) أو «الشىء غير القابل للتدمير» لمان راى (١٩٢٣)، ومثّلت الأجساد الغريبة التى ابتكروها خلال ألعابهم «الجثة الرائعة» رغبة السرياليين فى تفكيك الواقع، والتشكيك فى موضوعية الإدراك.
ويقول بريتون إن السرياليون وجدوا فى اللعبة طريقة «لنفى التقليد المحموم والساخر للمظاهر الجسدية، والذى لا يزال أبرز جوانب الفن المعاصر وأكثرها إثارة للجدل»، إذ حطمت «وهم الكمال الجسدى»، وبدلًا من ذلك «أكدت على علاقات الصدفة، ما يوحد العالمين الداخلى والخارجى». وتُحفظ الآن أعمال المجموعة الفنية «الجثة الرائعة» فى مجموعات فنية رئيسية حول العالم، بما فى ذلك العديد من الكولاجات، مثل هذه التى صنعها بريتون وستة من أصدقائه السرياليين، والتى تُظهر رأس مظلة مُسندًا على صندوق أمتعة وأرجل وعاء مكدسة. وهناك أعمال كولاج أخرى، مع احتفاظها بطابعها العشوائى، يبدو أنها أُنجزت بشكل تعاونى على مرأى من بعضهم البعض، دون أن يطوى الفنانون صفحات مساهماتهم، حتى عندما لم تُقدّم مساهماتهم سرًا، سمحت «الجثة الرائعة» للسرياليين بإبداع عمل فنى «لا يمكن لعقل واحد» أن يُبدعه، مستوحين من رؤى فنانين متعددين. ولم يكن «الجثة الرائعة» المثال الوحيد على أسلوب فنى مبتكر طوره السرياليون، ففى أوائل عشرينيات القرن العشرين شهد «الرسم الآلى» قيام السرياليين بإبداع أعمال فنية تعتمد على الصدفة والعشوائية والصدفة، فى محاولة لفصل نوايا عقولهم الواعية تجاه العمل الفنى عن أفعال أيديهم اللاواعية.
وفى العقد التالى، طوّر سلفادور دالى «منهجه النقدى البارانويدى»، حيث كان يُرهق نفسه قبل الرسم، فى محاولةٍ منه للتفاعل مع أكثر جوانبه اللاعقلانية. ووُلدت هذه الأساليب الثلاثة من رغبة السريالية فى تركيز العقل اللاواعى فى عملية صنع الفن، متجاوزةً العقلانية سعيًا لخلق شىء جديد، حرّ، سريالى، يتجاوز الواقع.
