حين صعدت نجاح سلام على خشبة المسرح لأول مرة بعد سنوات من التدريب والصبر، لم يكن الجمهور يسمع مجرد صوت، بل كان يتلمّس قصة حياة كاملة، حكاية طفلة بيروتية تحوّلت إلى رمز للغناء العربي. كل نغمة كانت تنطق بالأمل، كل لحن يعكس أصالة لبنان وروح العروبة، وكل تصفيق يردد بصوت الجماهير اعترافاً بالموهبة التي فاقت كل التوقعات.
كانت النجومية بالنسبة لها أكثر من شهرة أو أضواء، كانت رسالة بأن الفن يمكن أن يحمل الوطن في قلبه، ويصل إلى أبعد الحدود، وأن الصوت قادر على أن يوحّد الشعوب قبل الآذان. من أغانيها الأولى في الإذاعة اللبنانية إلى قاعات القاهرة الكبرى، كانت نجاح سلام ترسم مساراً فنياً مليئاً بالشغف والإصرار، وتحفر بصوتها مكاناً خالداً في ذاكرة العرب، حيث وصفتها صحيفة «الأهرام» المصرية عام 1956: «نجاح سلام، الصوت الذي ينساب كالنسيم فوق القاهرة، يحمل نغمة لبنان وروح العرب، ويجعل كل قلب يخفق بفخر وانبهار».
الانطلاقة الكبرى في لبنان
بعد نجاح أغنية «حوّل يا غنام»، بدأت شهرة نجاح سلام تتسع بسرعة، وصار صوتها يُسمع في كل أرجاء لبنان، ما جعل الإذاعات ومحطات الراديو تستدعيها بانتظام. في العام 1950، كانت نجمة الإذاعة اللبنانية بلا منازع، حيث كانت تتلقّى طلبات الأداء من مختلف المناطق اللبنانية، ما عزّز مكانتها الفنية لدى الجمهور. وكتبت صحيفة «النهار» اللبنانية سنة 1950: «صوت نجاح سلام يملأ أرجاء بيروت، وهي الفتاة التي صنعت من الغناء اللبناني لوحة موسيقية نابضة بالحياة».
في هذه الفترة، كان والدها محيي الدين سلام يركّز على صقل صوتها وتعليمها فنون الأداء، حيث علّمها المقامات الموسيقية المختلفة، الانتقال بين المقامات، فن الموال، العزف على العود، وحسن مخارج الحروف على المسرح. هذه الخبرة المبكرة مكّنتها من أن تتعامل مع الأغنية اللبنانية بطريقة احترافية توازي كبار الفنانين العرب، فرأت صحيفة «الجمهورية» المصرية في 1951: «نجاح سلام تثبت أن الصوت اللبناني يمتلك القدرة على المنافسة العربية، بفضل التدريب الدقيق والانضباط الفني».
الانتشار العربي
بعد النجاح المحلي، انتقلت نجاح سلام إلى الانتشار العربي، فبدأت تلقي الدعوات للغناء في سوريا والعراق وفلسطين والأردن. هذه التنقلات مكّنتها من التعرّف على جمهور متنوّع، وفهم خصائص كل بلد، مع الحفاظ على هويتها اللبنانية في الأداء، وأشارت جريدة «المحرر» اللبنانية في 1952: «نجاح سلام، الصوت اللبناني الأصيل، ينتشر اليوم في بلاد العرب، حيث تجذب القلوب قبل الآذان».
في إحدى الرحلات من الأردن إلى بغداد، توقفت عند مقهى صحراوي، ووجدت صورتها معلقة على الجدار بعنوان «المطربة الناشئة الآنسة نجاح سلام»، في لحظة رمزية أظهرت مدى انتشارها وتأثيرها حتى في الصحراء البعيدة، وهو ما أسعد والدها كثيراً وأكد له قيمة رحلة ابنته الفنية.
لقاء الملحنين المصريين الكبار
في العام 1951، كانت نجاح تغني في فندق «طانيوس» في عاليه، عندما حضر فريد الأطرش خصيصاً للاستماع إليها، فغنّت له أغنية «يا عواذل فلفلوا»، وأبدى إعجابه الشديد بأدائها. اقترح عليها الذهاب إلى مصر، وأخبر والدها أن هذه الخطوة ضرورية لمسيرتها الفنية. وكشفت صحفية «الأهرام» المصرية في 1952: «نجاح سلام، اللبنانية التي أسرت القلوب في بيروت، صارت جاهزة لمنافسة كبرى نجوم القاهرة».
في مصر، التقت نجاح بالملحن الكبير رياض السنباطي، الذي غيّر مسارها الفني بشكل جذري. قال لها: «هذه الأغنيات قليلة بالنسبة لصوتك، صوتك فيه أكثر بكثير». ومن بين أبرز أعمالها التي لحنها السنباطي: «النيل مقبرة للغزاة»، «عايز جواباتك»، «أمة الحق»، «يا ظالمي»، و«الشهيد»، والتي أثرت مشهد الغناء المصري بلمستها اللبنانية الأصيلة.
التمسّك بالهوية اللبنانية في مصر
رغم الشهرة في مصر، أصرّت نجاح على الغناء بااللهجة اللبنانية، رغبة منها في تمثيل بلدها، وتمرير الأغنية اللبنانية إلى الجمهور المصري الكبير. كانت تعتبر أن الحفاظ على االلهجة الوطنية يمثل واجباً فنياً ووطنياً، وأنه يجب أن يبقى الصوت اللبناني مميّزاً حتى في قلب القاهرة. وهذا ما أضاءت عليه صحفية «المحرر» المصرية عام 1953: «نجاح سلام، صوت لبنان في مصر، تقدم الأغنية الشعبية اللبنانية كما لو كانت لوحة فنية نابضة بالحياة، دون أن تفقد روح الطرب الأصيل».
الغناء لكبار الملحنين العرب
لم تقتصر نجاح على التعاون مع السنباطي، بل غنّت أيضاً من ألحان محمد عبد الوهاب في فيلمها الأول «سكة السعادة»، ومحمد الموجي («يا مالكاً قلبي» و«يا أغلى اسم في الوجود»)، وسيد مكاوي («الله يا ليل» و«يا مفرحة قلبي»)، وبليغ حمدي لحن لها خمسة ألحان، وأحمد المحلاوي وفؤاد حلمي وغيرهم.
كما حافظت على التعاون مع كبار الملحنين اللبنانيين مثل نقولا المني، شفيق أبو شقرا، حليم الرومي، إيليا المتني، عبد الغني شعبان، سامي الصيداوي، وعفيف رضوان. ومن سوريا غنّت من ألحان عدنان قريش وسهيل عرفة وشفيق شكري ونجيب السراج.
ونشير الى مقتطف صحفي (النهار اللبنانية، 1955): «نجاح سلام نجمة القلوب في كل الوطن العربي، صوتها يجمع بين الأصالة اللبنانية والخبرة الفنية المصرية».
مطربة الوحدة والقومية العربية
صدحت أغاني نجاح سلام الوطنية والحماسية في سماء الوطن العربي، حتى لقبت بمطربة القومية العربية. شكّلت ثنائياً فنياً ووطنياً مع زوجها الفنان محمد سلمان، ومن أشهر أعمالهما المشتركة: «لبيّك يا علم العروبة»، التي أبهرت الجمهور أثناء العدوان الثلاثي على مصر، حتى أشاد بها الرئيس جمال عبد الناصر ودعا الفنانين لتقديم المزيد من الأعمال الوطنية. وفي هذا السياق كتبت صحفية «الأهرام» المصرية سنة 1956: «نجاح سلام ليست مجرد مطربة، بل صوت الثورة والوطنية، تحمل رسالة الفن في أبهى صورها».
قبل استقلال الجزائر، كانت نجاح أول من غنّى للجزائر: «يا طير يا طاير خد البشاير من مصر وإجري على الجزاير». وفي حرب تشرين، دوّى نشيدها «سوريا يا حبيبتي»، الذي أصبح النشيد القومي غير الرسمي لسوريا.
تقدير الرؤساء والزواج الفني
في عيد الثورة، كانت نجاح تغنّي على المسرح بحضور الرئيس جمال عبد الناصر، وتبادل المواويل مع محمد سلمان. بعد انتهاء الغناء، هنّأهما الرئيس قائلاً لوالدها: «دول لايقين لبعض»، لتتوّج العلاقة الفنية والشخصية بالزواج، وتصبح نجاح سلام رمزاً للفن الوطني والعروبة. ومما كتبته صحفية «الجمهورية» المصرية 1960: «نجاح سلام، الصوت اللبناني الذي اجتمع بالوطنية والقومية، أصبح مثالاً للفنانة التي تجمع بين الموهبة والرسالة».
إرث خالد
نجاح سلام لم تكن مجرد مطربة كبيرة، بل كانت تاريخاً فنياً قائماً بذاته. بعد مسيرة طويلة من العطاء والإخلاص، سجلت نحو خمسة آلاف أغنية وعشرات الأفلام السينمائية، كلّها ساهمت في تكريس ريادتها وتميّزها في زمن العمالقة، حيث استحقت عن جدارة أن تكون واحدة منهم.
من خلال التمسّك بالهوية اللبنانية، الانتشار العربي، والغناء للوطن والقومية العربية، أثبتت نجاح سلام أنها أكثر من مطربة، بل كانت رمزاً للفن الذي يوحّد الشعوب ويخلّد التاريخ.
ونختم بما كتبته عنها صحيفة «النهار» اللبنانية 1965: «نجاح سلام صوت خالد في ذاكرة العرب، كل أغنية لها صفحة من تاريخ الفن، كل حنجرة منها منارة للغناء الأصيل».

