يلاحظ الزائر مدينة نيويورك، البوابة الشرقية للولايات المتحدة، “تمثال الحرية” المهدى من دولة فرنسا بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للثورة الأميركية الموافقة لعام 1876، كمعلم تراثي عالمي يجسد قيم الحرية، يقف مرحبا بالمهاجرين الجدد، مكتوبا بأبيات شعر خالدة كتبت على قاعدته تقول: “هب لي كادحيك والفقراء… وجموعك المتضورة شوقا لنسمات الحرية” .
ولقد ظلت غالبية الساسة والمواطنين الأميركيين يشيرون دوما إلى مجتمعهم الأميركي باعتباره مجتمعا مهاجرا تشكل الهجرة فيه بعدا أساسيا في تركيبته وتراثه وأساطيره الثقافية.
بيد أن هنالك شريحة واسعة من اليمين الأميركي لا تنظر إلى هذه السردية الثقافية التاريخية كقدر حتمي ينبغي دوما الحفاظ عليه في الوجدان الوطني.
جاء انتخاب الرئيس الأميركي ترامب مرة أخرى في ظل تدفقات هائلة للمهاجرين غير الشرعيين عبر الحدود الجنوبية الأميركية مع دولة المكسيك، وفي ظل انقسام أيديولوجي عميق بين التيارات اليمينية واليسارية حول العديد من القضايا السياسية والاجتماعية، وعلى رأسها قضية الهجرة، ومعالجة مشكلة المهاجرين غير الشرعيين.
الهجرات الأوروبية الأولى
بدأت الهجرات الأوروبية تتدفق، واحدة تلو الأخرى، منذ بداية القرن الـ17، لتقيم مجتمعات استيطانية واسعة في أراضٍ شاسعة خصبة كانت تقطنها في تلك الفترة المجتمعات الأصلية، لتبدأ أعداد الآخرين في التقلص تدريجيا عاما بعد عام، إما بسبب الحروب والصراعات مع الوافدين الجدد، أو بسبب الأوبئة والأمراض التي حملها هؤلاء المهاجرون الأوروبيون إلى عالمهم الجديد.
وعلى الرغم من المحاولات الشعبية والرسمية لإضفاء مسحة جمالية من الخيال الشعبي على فكرة أول تلاقٍ للمهاجرين مع أهل البلد الأصليين ومشاركة بعضهم البعض الطعام لتخلدها الذاكرة الوطنية فيما يعرف “بمناسبة عيد الشكر” الذي تحتفل به الولايات المتحدة رسميا كل عام في آخر يوم خميس من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، فإن بعض الأقليات من السكان الأصليين ما زالت ترفض فكرة الاعتراف بهذا العيد؛ معتقدين أن وصول المهاجرين الأوروبيين إلى بلادهم كان كارثة ونكبة كبرى تغيرت فيها حياتهم ومجتمعاتهم وعاداتهم بعدها إلى الأبد.
كانت غالبية المهاجرين الأوائل المستوطنين في الولايات المتحدة من الخلفية الأنجلوسكسونية وتعتنق البروتستانتية دينا لها، يبحث بعضهم عن حرية دينية أوسع في بلد لا يخضع آنذاك لأي حكومة أوروبية حديثة، لتسيطر هذه المجموعة من المهاجرين الأوروبيين على مجريات السياسة في الولايات المتحدة إلى عصرنا الحالي.
ولكن لم تكن الهجرة الأميركية دائما سهلة المنال للراغبين في اتخاذ الولايات المتحدة موطنا لهم، حتى بالنسبة لبعض الأقليات الأوروبية الأخرى غير الأنجلوسكسونية.
فعلى سبيل المثال، واجهت الهجرة الأوروبية من أيرلندا ودول جنوب أوروبا مثل إيطاليا، وهي أقليات كاثوليكية لا بروتستانتية، تمييزا عنصريا ضدهم حين وصولهم إلى الولايات المتحدة، ما زالت تحتفظ به الذاكرة التاريخية لهذه الأقليات.
ولكن رغم هذه الصعوبات والتمييز ضدهم، نجحت هذه الأقليات الأوروبية نجاحا سريعا في الاندماج في المجتمع الأميركي وأصبحوا جزءا أصيلا من نسيجه الاجتماعي.
والجدير بالإشارة هنا أن الرئيس جو بايدن يعتبر ثاني رئيس كاثوليكي في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية بعد الرئيس الأميركي جون كينيدي الذي واجه حين ترشحه للرئاسة الأميركية سنة 1960 صعوبة كبيرة في إقناع الناخبين الأميركيين بقبوله كرئيس كاثوليكي للمرة الأولى في تاريخهم.
ولكن بدأت الولايات المتحدة الأميركية في فتح الباب على مصراعيه للهجرة غير الأوروبية بنهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية عصر الحرب الباردة، وذلك في خضم التطورات الديمقراطية عندئذ من إجازة الحقوق المدنية وانفتاح رسمي حيال التعددية العرقية، ومحاولة التقرب لدول العالم الثالث في ظل تنافس سوفياتي حامي الوطيس.
لقد شهدت هذه الفترة وصول أعداد كبيرة من العرب والمسلمين إلى الولايات المتحدة، لتخطو البلاد بذلك أولى خطواتها القوية نحو التعددية العرقية الشاملة، واستقبال الهجرات غير الأوروبية بأعداد كبيرة تباعا.
ظلت غالبية الساسة والمواطنين الأميركيين يشيرون دوما إلى مجتمعهم باعتباره مجتمعا مهاجرا تشكل الهجرة فيه بُعدا أساسيا في تركيبته وتراثه، ولكن ما حدث في العام الأخير وفي فترة ترامب الأولى غير هذه الصورة
ولكن ظهرت مشكلة أخرى في الولايات المتحدة، وهي مشكلة الهجرة غير الشرعية، خاصة مع تدهور الأوضاع في بعض دول أميركا الجنوبية، حيث يتسلل المهاجرون- غير الشرعيين- ذوو الأصول اللاتينية الباحثون عن سبل حياة أفضل إلى الولايات المتحدة عبر قنوات غير رسمية، مستغلين الحدود الشاسعة الواسعة غير المحمية لعقود طويلة بين الولايات المتحدة ودولة المكسيك.
وتشير التقديرات حاليا إلى أن أعداد المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة يتجاوز 12 مليون مهاجر، تزايدت أعدادهم زيادة ملحوظة خلال فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق بايدن الذي فتح الحدود الأميركية مع دولة المكسيك تماما لطالبي اللجوء السياسي والإنساني من قارة أميركا الجنوبية، مما أغضب كثيرا التيار اليميني الداعم لترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية السابقة.
سياسة ترامب حيال الهجرة
كان ترامب واضحا جدا في سياسته حيال الهجرة الشرعية وغير الشرعية، حيث وعد ناخبيه بتنفيذ سياسة هجرة شاملة متشددة لم تعرف الولايات المتحدة مثلها قط في تاريخها الحديث.
لم يخفِ الرئيس أيضا استياءه من الهجرة غير الأوروبية للولايات المتحدة الأميركية، خاصة من دول العالم الثالث، مبتدئا فترة ولايته الأولى بحظر دخول المسلمين من بعض الدول الإسلامية للولايات المتحدة، في برنامج حظر أقرته المحكمة الفدرالية العليا في سابقة قانونية سهّلت كثيرا قرارات ترامب المتشددة حيال الهجرة في مستهل ولايته الثانية.
أصوات المسلمين الأميركيين الانتخابية التي أيدت ترامب في الانتخابات الأخيرة لم تثنهِ عن سياسة حظر المهاجرين من الدول المسلمة، فقد توسعت دائرة الحظر كثيرا خلال الأسابيع الماضية، خاصة بعد حادثة إرهابية استهدف فيها مهاجر أفغاني- عمل سابقا مع القوات الأفغانية المتحالفة مع القوات الأميركية في أفغانستان- بعض الجنود الأميركيين في العاصمة الأميركية واشنطن.
أثارت هذه الحادثة حفيظة ترامب وإدارته نحو الهجرة الشرعية وغير الشرعية من دول العالم الثالث، ليتخذ قرارات حاسمة بإيقاف المعاملات الحكومية المتعلقة بقبول واستكمال طلبات الهجرة والجنسية الأميركية للمتقدمين بها، سواء داخل الولايات المتحدة الأميركية أو خارجها، لحوالي 19 دولة من دول العالم الثالث.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن معظم المهاجرين غير الشرعيين يعملون في أعمال شاقة مثل الزراعة وخدمات الفنادق والمطاعم وأعمال التنظيف المتعددة والبناء. ولا شك أن بعض المزارعين البيض، مثلا في مزارع كاليفورنيا، وأكثرهم ممن أدلى بصوته للرئيس ترامب، يدركون أهمية هذه العمالة الصبورة الرخيصة، ويطالبون بتوجيه رسمي من الحكومة الأميركية لمعالجة هذه المشكلة حتى تظل هذه العمالة تعمل في العلن وسط قوانين أميركية واضحة دون الخوف من مغبة الترحيل من الولايات المتحدة.
بيد أنه لا يبدو حتى الآن ما يشير إلى تحقيق رغبة هؤلاء المزارعين البيض من قبل إدارة ترامب.
دور ستيفن ميلر
يمارس ستيفن ميلر، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض، دورا متشددا كبيرا في رسم سياسات ترحيل المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة، من خلال الضغط القوي على هيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك؛ لتنفيذ أكبر عمليات ترحيل يومية تشهدها الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي أحال بعض المدن الأميركية، مثل مدينة لوس أنجلوس وغيرها من المدن الأميركية الأخرى، إلى ساحات طوارئ غير معلنة تستهدف تجمعات المهاجرين غير الشرعيين، مما دفع البعض منهم إلى الرحيل طواعية حتى لا يقع في قبضة قوات إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك.
ينتمي ستيفن ميلر إلى التيار الأميركي اليميني المتشدد حيال الهجرة الشرعية وغير الشرعية، باعتبارها تمثل تهديدا وجوديا لسيطرة الأغلبية البيضاء في الولايات المتحدة، إذ تتوقع البيانات الإحصائية، أن تتحول هذه الأغلبية إلى أقلية خلال العقدين القادمين، وذلك لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة فيما ستشكل الأقليات ذات الأصول الأفريقية، واللاتينية، والآسيوية، والهندية، والعربية، مجتمعة، الأغلبية في الولايات المتحدة الأميركية.
ساهم ما يسمى بـ”القانون الكبير الجميل” الذي أجازه الكونغرس الأميركي هذا العام في ضخ ميزانية ضخمة لأول مرة في العصر الحديث، تقدر بـ 75 مليار دولار أميركي لصالح هيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، تساعدها في تعيين وتدريب عشرات الآلاف من الجنود بحوافز مالية ضخمة قد تصل إلى خمسين ألف دولار أميركي، وكذلك في زيادة سعة مراكز إيواء المرحّلين لتصل إلى حوالي مئة ألف سرير لتسهيل عمليات الترحيل.
يبدو أن الرئيس الأميركي ترامب قد نجح نجاحا منقطع النظير في إيقاف تدفق الهجرة غير الشرعية القادمة إلى الولايات المتحدة عبر الحدود مع دولة المكسيك، حيث أصبح معدل العابرين شهريا لهذه الحدود أقل من عشرة آلاف مهاجر غير شرعي، وهو رقم منخفض جدا لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة الحديث منذ بداية الستينيات من القرن الماضي.
لقد تضاعفت كثيرا حالة الخوف والهلع في أوساط المهاجرين عموما، خاصة بعد إعلان إدارة ترامب إيقاف عمليات التجنيس والحصول على الإقامة لشريحة واسعة من المهاجرين الشرعيين، وكذلك استهداف المجتمعات المهاجرة في المدن الأميركية الكبرى.
جاءت مناسبة أعياد الشكر هذه السنة مختلفة كثيرا عن السنوات القليلة الماضية بالنسبة للعائلات المهاجرة في الولايات المتحدة، وهي تفكر في مستقبلها، وما سيحدث لها في ظل سياسة محاربة الهجرة غير الشرعية، وإغلاق باب الهجرة الشرعية من دول العالم الثالث.
تأمل هذه المجتمعات المهاجرة أن يكون عام 2025 عاما استثنائيا عابرا تعود بعده الولايات المتحدة كما عهدها الناس، مرحبا تمثال حريتها بالمهاجرين، فقراء ومساكين، من كل أصقاع العالم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

