كان سيد درويش يشعر دائمًا أن العمر قصير ولن يمهله طويلًا، ولذلك أراد أن تحرقه عبقريته وتأكل عمره ويرحل مبكرًا.
فى حى كوم الدكة القديم بمدينة الإسكندرية كان مولد فنان الشعب سيد درويش، حيث لم يكن قد مضى نحو 10 سنوات على بداية الاحتلال الإنجليزى لمصر، والوضع الداخلى يومئ بإرهاصات ثورة شعبية من أجل الاستقلال والتخلص من البؤس والحرمان والشقاء الذى عاش فيه الناس.
من رحم هذا الشقاء وفيه ولد الشيخ سيد درويش، وكان من الطبيعى أن يلحقه والده فى حرفة يرتزق منها، ويكسب من ورائها «لقمة العيش»، وكانت مهنة النجارة ونشر الخشب ودق المسامير هى المتاحة أمامه إلا أن والده «المعلم بحر درويش» تنبأ بالفطرة البسيطة بمستقبل الفتى وكعادة الأهل فى ذلك الزمان فقد ألحقه بمعهد دينى حفظ فيه القرآن الكريم وجوّده وأراده «المعلم بحر» مقرئا للقرآن، وفقيها، ولكن الشيخ الصغير كان له رأى آخر فقد كان مولعا بالموسيقى والغناء، وهام وراء أهله وشيوخه وسلاطينه الذين تفجرت مواهبهم الموسيقية والغنائية من أسفل «عمامة» المدارس الدينية التى درسوا فيها. ومثل غيره من المشايخ فى ساحة الطرب، أجاد الشيخ سيد درويش في صباه، حفظ القرآن وتجويده وإدراك معانيه، فالكل تشارك فى هذه النشأة وفى بداية طريق المعرفة، لكنه اكتسب خبرات ومعارف جيدة من مصاحبته صبيا للفرق الجوالة للغناء فى الموالد والأسواق، ثم أفادته أيضًا الفترة التى شارك فيها فرق الإنشاد الدينى وغناء التواشيح فتأصلت جذوره الموسيقية، خاصة عندما حاكى المغنيين فى عصره فى غناء الأدوار والمواويل والقصائد الدينية، مثل داوود حسنى وكامل الخلعى وإبراهيم القبانى.
بعد وفاة والده ترك سيد بحر درويش الدراسة الدينية ولم يتبق له منها سوى صفة الشيخ، وانطلق يغنى هنا وهناك ويحفظ التواشيح وحتى أناشيد وتراتيل الكنائس لأنها كما كان يقول «تعبر عن أشواقنا إلى الذات الإلهية»، وعن إكبارنا لهذه الذات العلية، فهى ألحان تستهدف التعبير وليس مجرد التطريب.
كان الفتى الشيخ يحمل أسفل عمامته بذور ثورة موسيقية عارمة قلبت كل الموازين والمقاييس فى الموسيقى والغناء والطرب فى بدايات القرن العشرين، فقبل أن يبدأ سيد درويش رحلته العبقرية كانت الموسيقى والغناء فى مصر فنًا سجينًا فى القصور، ومخصصة لملء الفراغ وإدخال الحبور والسرور على نفوس الحريم والجوارى، وإثارة الغرائز، ولذلك كان من الطبيعى أن تستقر الموسيقى وتعيش وتحيا فى أسوار الحريم لتؤدى دورًا ترفيهيًا داخل بيئة اجتماعية نشأت فيها.. فلم يكن الغناء قبل الشيخ سيد للناس العاديين، ولم يكن لهم سوى أغانيهم البسيطة النابعة من وجدانهم وأدرك ذلك الفتى من حياته وسطهم وصلاته الوثيقة بحياتهم اليومية، ولذلك أقسم أن يطلق سراح الغناء إلى الناس، غناء سهل بسيط حتى يصبح من حق الجميع أن يغنى.
انطلق منذ صغره وصباه يختزن الأنغام الشعبية البسيطة المجهولة المصدر غالبًا والتى يتغنى بها الناس العاديون من أصحاب الحرف مثل الباعة والبنائين والحمالين والفلاحين والعمال والمراكبية لتخرج من وجدانه إعجازا فنيا غير مسبوق بما فيه من بلاغة موسيقية، وكان ذلك إعلانا عن انحياز سيد درويش بفنه للرجل البسيط والإنسان العادى لكى يعبر عن انفعالاته بالغناء فقد كان يريد للشعب أن يغنى ربما لأول مرة منذ أن عرف الشرق الغناء، وبالفعل تجاوب الناس معه دون قيود فنية وبمضامين موسيقية سلسة وراحت الأغنية مع سيد درويش تعبر عن شقاء العمال والسقايين والفلاحين وحب الوطن فقد حرر الأغنية من تعقيد أساطين التخت الشرقى قبله وفى زمنه، وحرر موضوعاتها من الآهات والزفرات والهجر إلى عوالم أخرى أكثر اتساعا وأرحب آفاقا.
ويرى بعض المؤرخين الموسيقيين أن فترة ظهور سيد درويش كانت مليئة بألوان التعبير ومظاهر الضيق بالقديم المسيطر السائد فقد كان هناك على الساحة الموسيقية من يطالبون بالتطوير والتغيير، وربما جاءت أصوات عبده الحامولى ومحمد عثمان وسلامة حجازى ومواهب أخرى، مثل الشيخ أبو العلا محمد وداوود حسنى والشيخ يوسف المنيلاوى وكامل الخلعى، أن تفرض بعض التغيير فى مسار الغناء، ولكن الانفجار العبقرى كله بدأ بالشيخ سيد درويش.
تعاطيه المخدرات- وليس ادمانه- كان بسبب حبه وهيامه بسيدة إسكندرانية تدعى «جليلة أم الركب»، وهى قصة الحب التى أصبحت حديث الناس لأنها لم تكن فى مستوى ذلك العبقرى.
ويقال إن سيد درويش لم يكن يختار لحبه وعشقه نماذج راقية أو ذات حسب ونسب، وتتمتع بمراكز اجتماعية متميزة بل كان لا يحلو له العشق إلا فى أجواء غريبة.
وفى حب «جليلة» كتب أروع ألحانه «أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العزول»، و«ضيعت مستقبل حياتى فى هواك» و«زورونى كل سنة مرة.. حرام تنسونى بالمرة».
وبسبب فشله فى حبه لـها ومحاولته نسيانها أسرف فى تعاطى المكيفات، وحاول نسيانها عندما انتقل إلى القاهرة بالدخول فى علاقات عاطفية وغرامية، إلا أن حب جليلة ظل غرام حياته الأوحد رغم ولعه بعد ذلك بمطربة تدعى حياة صبرى مغنية بعض أوبريتاته الغنائية.
ورغم تعاطيه المخدرات كافح فى سبيل التخلص منها، ولحن من أجل ذلك عددا من الأعمال الفنية التى تحرض على كراهية المخدرات والابتعاد عنها، ولذلك ينفى دارسو موسيقى الشيخ سيد درويش، أن يكون الرجل قد أسرف فى تعاطى المخدرات، خاصة الحشيش حتى مات ويتساءلون كيف لرجل يفعل ذلك، وهو الذى غنى للشعب المصرى ولحن في 6 سنوات فقط 200 أغنية – أي أغنية كل 3 أيام-علاوة على 20 أوبريتا، وكانت أغانيه هى وقود ثورة الشعب فى 1919، فمع قصصه الغرامية كان عشق مصر وشعبها هوغرامه الأكبر.
كانت الفترة الأكثر تأثيرا فى حياة سيد درويش وفى ثقافته الموسيقية والتى شكلت حصيلة معرفته بأسرار اللحن والغناء، هى تلك التى ارتحل فيها إلى بلاد الشام فلسطين ولبنان وسوريا فى رحلتين متعاقبتين مع فرقة أولاد عطا الله، واستمرت الرحلة 3 سنوات، وأتاحت له الفرص لكى يدرس ويتتلمذ فى بدايته على أيدى أساتذة الموسيقى الشرقية والنغم الشرقى الأصيل، فأتقن أصول الغناء والتلحين وتعلم دروبه ومقاماته ومخارجه، إضافة إلى الرحلة لم يتوقف عن التطلع والدراسة والمعرفة والنزول إلى المصادر الطبيعية التى كانت تغذى عبقريته.
كان يقف على ربوة عالية فى قلعة قايتباى فى الإسكندرية، ويمد ببصره إلى الأفق البعيد الغارق فى زرقة البحر المتوسط، وهو يحلم بعبوره إلى الشاطئ المقابل إلى إيطاليا، مرددا فى نفسه «الفن هناك.. متى أستطيع أن أعبر البحر لأتعلمه».
وتعلم العزف على العود فى مدرسة إيطالية ليلية بالإسكندرية، وأطلعه ذلك على أساطين الموسيقى الإيطاليين وأعمالهم الموسيقية الخالدة من التراث الأوبرالى الموسيقى، ولم يتحقق حلمه بالسفر إلى إيطاليا.. فقد كان على موعد مع القدر مع ثورة 19