حين تمنى خبير الاستدامة الأممي، الدكتور فرانسوا فرح، تمرير بعض السياسات لتفعيل دور جامعة الكويت في الدفع بركب التنمية المستدامة، وكان هذا على هامش مشاركتنا في الجلسة الرئيسية لمؤتمر البحث العلمي، وأثره في التخطيط التنموي للدولة.
قد وجدتُ الفرصة سانحة على هامش افتتاح المعرض المصاحب للمؤتمر، وبمساعدة الدكتورة نورية الكندري، مشكورة، حين استوقفت مديرة الجامعة الدكتورة دينا الميلم (التي تقلدت منصبها للتو)، وفي غضون دقائق تمكن بفصاحته، وتركيزه من تقديم جملة من النصائح المباشرة، كانت محل إنصات واهتمام مع فريقها رغم مشاغلها.
تواجه الجامعات تحديات تتنامى في الواقع، فهي تمثل حجر الأساس في أي مجتمع يسعى الى تحقيق التنمية المستدامة، اذ تسهم في إنتاج المعرفة، وتعزيز البحث العلمي، وتطوير رأس المال البشري.
ومع ذلك، يشير بيتر فليمينغ في كتابه “أكاديميا مظلمة: كيف تموت الجامعات”؟ إلى أن هذه المؤسسات لم تعد تؤدي دورها التقليدي، بل أصبحت تتبنى نموذجاً تجارياً يعكس قيم السوق الحرة، ما أدى إلى تدهور جودة التعليم والبحث العلمي، وأثر سلباً على الصحة العقلية للعاملين فيها.
أحاول في هذه المقالة والمقبلة استعراض أهم الأفكار التي تناولها الكتاب، مع محاولة ربطها بأهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي تسعى الى تحقيق تعليم جيد، ومجتمعات مستقرة، وعدالة اجتماعية وصولاً إلى النموذج المستدام الذي حاول طرحه في نهايات الكتاب.
أولاً: “تسليع” التعليم: بين الجودة والربح (الهدف 4: التعليم الجيد)
يطرح فليمينغ فكرة أن الجامعات لم تعد مراكز للمعرفة، بل تحولت مؤسسات تسعى الى الربح، حيث يُنظر إلى الطلاب على أنهم “عملاء” يدفعون رسوماً للحصول على شهادة، بدلاً من التركيز على جودة التعليم نفسه.
في هذا السياق، تُحدد جودة البرامج الأكاديمية بناءً على قدرتها على تحقيق أرباح، ما يؤدي إلى تقليص التخصصات غير المربحة، مثل الفلسفة والعلوم الإنسانية، رغم أهميتها في بناء الوعي النقدي للمجتمعات.
هذا التحول يتعارض مع “الهدف الرابع من التنمية المستدامة (التعليم الجيد)”، الذي يهدف إلى ضمان توفير تعليم شامل، وعالي الجودة لجميع الأفراد، بغض النظر عن قدرتهم المالية.
فالجامعات التجارية تسهم في تعميق الفجوات التعليمية، اذ يحصل الطلاب القادرون مادياً على تعليم أفضل، بينما يعاني الآخرون من ديون طائلة، دون ضمان فرص عمل ملائمة.
ثانياً: أزمة الأكاديميين: التوازن النفسي والذهني، والتفاوت في الأجور (الهدف 8: العمل اللائق والنمو الاقتصادي)
تناول الكتاب كيف يعاني الأكاديميون من ضغوط هائلة بسبب السياسات الإدارية الـ”نيوليبرالية”، فالجامعات تطالبهم بإنتاج عدد هائل من الأبحاث، وتحقيق مؤشرات أداء صارمة مثل “h-index”، وأحياناً توفير تمويل خارجي، ما يستدعي ذلك تماهياً مع أجندات الآخرين بعيداً عن الشواغل الأكاديمية، ما يجعلهم يعيشون تحت ضغط مستمر.
يسلط الكتاب الضوء على حالات حقيقية، مثل انتحار ستيفان غريم، أستاذ علم السموم في “إمبريال كوليدج”، الذي كتب في رسالة قبل وفاته: “لماذا يُعامل الأستاذ بهذه الطريقة”؟
كما يذكر حالة ثيا هانتر، الحاصلة على الدكتوراه من جامعة “كولومبيا”، التي توفيت بسبب عدم قدرتها على تحمل تكاليف العلاج الطبي بعد أن أصبحت من ذوي الدخل المنخفض.
هذه الممارسات تتناقض بشكل مباشر مع “الهدف الثامن من التنمية المستدامة (العمل اللائق والنمو الاقتصادي)”، الذي يدعو إلى توفير بيئة عمل آمنة ومستقرة للموظفين، فالضغوط المالية والنفسية التي يواجهها الأكاديميون تخلق بيئة عمل غير مستدامة، تؤثر سلباً على جودة التعليم، وتؤدي إلى تراجع البحث العلمي.
يمثل كتاب “أكاديميا مظلمة: كيف تموت الجامعات”؟ تحذيراً من التحولات السلبية التي تواجه التعليم العالي في العصر الحديث، فبدلاً من أن تكون الجامعات محركات للتنمية المستدامة، أصبحت بيئات تنافسية مرهقة تضع الربح فوق المعرفة، والبيروقراطية فوق الإبداع.
في المقالة المقبلة سأستكمل طرح ما تناوله الكاتب بشأن خصخصة الجامعات، وتراجع العدالة الاجتماعية، وكيف أسهمت القيود الإدارية والبيروقراطية في التأثير على الابتكار الأكاديمي، وأنتهي إلى النموذج المستدام الذي طرحه في كتابه، عسى أن يساعد هذا الطرح في إثراء النقاش والحوار.
خبير استدامة
[email protected]