تعقيبا على ذلك، نجد ميلا إلى تعتيق سطح اللوحة، وإلى خلق انتماء زمني قديم لها أيضا. من يتأمل أعمالك يظن أنها آتية من فن ما قبل النهضة حتى. ماذا تقول عن ذلك، ولماذا تتجاهل أعمالك كل التجريب والتحديث اللذين لحقا بفن اللوحة؟
كلامك صحيح. أنا أحب فنون ما قبل النهضة، كما أني أحب الحداثة في تعريفها الأول، وهو تعريف بودلير لها، وأكاد أقول إن هذا التعريف يبدو لي أشبه بـ”دستور الإيمان” في الفن. يقول هذا التعريف: “الحداثة هي المؤقت، العابر، نصف الفن الذي نصفه الآخر الأبدي والثابت”.
لستُ كلاسيكيا، ولا أملك أن أكون كلاسيكيا. نتاجي يدخل في خانة الحداثة من حيث التوجه والتقنية والتنفيذ. هناك فرق جذري بين ما يُعرف بالفن الحديث وما يُعرف بالفن المعاصر. بصراحة أجد نفسي غريبا عن معظم الاتجاهات المعاصرة، ولا أظن أنها ستجد لها مكانا في تاريخ الفن. الزمن هو الغربال الأكبر. هناك أسماء برزت في خمسينات القرن الماضي ودخلت اليوم في النسيان. لا أتحدث هنا عن نفسي أو عن نتاجي، بل عن النتاج الفني ككل. لا أحب هذا التجريب المجاني ولا أستهويه إطلاقا، وغوصي كباحث مستقل في تاريخ الفنون، لا كفنان، جعلني أنفر من هذا النوع من التحديث. في نهاية القرن التاسع عشر، شهدنا إعادة تقييم كاملة لمفهوم الفن. وأظن أننا نقترب من اليوم الذي سنشهد فيه إعادة تقييم كاملة لمفهوم الحداثة والتجريب. الفن الذي يخلو من أي إحساس بالأبدي وبالثابت ليس بفن.
تأثيرات
يتكرر القول عن أصول وتأثيرات من الفن الأيقوني المسيحي والتصوير الإسلامي و”وجوه الفيوم” المصرية في رسوماتك، كيف ترى أنت ذلك؟ وهل هذا القول يتجاهل أو يُهمل ما هو أعمق من هذه التأثيرات؟
نعم بالتأكيد، يُهمل ما هو أعمق من هذه التأثيرات. والدليل، نتاجي في ميدان الطبيعة الصامتة، فهو مماثل لنتاجي في الوجوه، وإن اختلف من حيث الموضوع الظاهر، في رأيي المتواضع. هذا ما أصبو إليه وأتمناه على الأقل.
كيف تتسرب مساحات بحثك في الأيقونات وتاريخ الفن والغناء إلى لوحاتك؟ هناك نوع من الشعرية في مناخات لوحاتك. هناك أثر لقراءاتك الشعرية والأدبية أيضا، ولديك إعجاب خاص بالشاعر الألماني ريلكه…
بحثي في تاريخ الفن بحث مستقل، أو هذا ما أرجوه في عملي في هذا الحقل. بازوليني شاعر وكاتب وسينمائي، أي فنان متعدد الوجوه. والأمثلة عديدة. أنا باحث، والبحث عمل جاد ويتطلب قدرة من التجرد والانضباط، وهو ذو طابع أكاديمي بالتأكيد. كتابي الأول يختلف عن الثاني، والثالث يختلف عن الاثنين، لأني دخلت تدريجيا في درب آخر يتطلب منهجية صارمة. ما تأثير ذلك عليّ كفنان؟ لقد غيّر من نظرتي إلى الفنون المعاصرة بالتأكيد، وجعلني أنظر إليها بكثير من الشك والريبة. حين وصلت إلى باريس، قبل أكثر من أربعين سنة، أنجزت سلسلة من اللقاءات مع عدد من مشاهير الرسامين، واليوم أنظر إلى هذا العالم بعين أخرى. هذا من جهة. من جهة أخرى، كل من يعرفني يعرف مدى إلمامي بالشعر وولهي به. إعجابي بريلكه ناتج من إعجابي ليس بشعره فحسب، بل بنثره وبنظرته إلى الفن والحياة. قبل ريلكه، وبشكل آخر، دوستويفسكي الذي لا أزال أعيش مع أبطاله منذ أن أدمنت قراءته وأنا في السابعة عشرة من عمري. هذه مسألة أخرى والحديث فيها يطول. دوستويفسكي ريحٌ عاصفة، أما ريلكه فنسمة تستكين إليها.
انشغال
أنت رسام وباحث لبناني، ولكن باستثناء كتاباتك عن فيروز والرحابنة، تبدو مشغولا بما يتجاوز هذه الهوية المحلية. من أين يأتي ذلك؟ من نشأتك؟ من محيطك العائلي؟ من قراءاتك الأولى ومن ثقافتك الشخصية عموما؟
سؤال أطرحه على نفسي عند قراءة هذا السؤال، وأعتقد أنك أجبت عنه. من نشأتي، ومن محيطي العائلي، ومن ثقافتي الشخصية عموما. كل هذه العوامل معا. أنا ولدت ونشأت في عائلة عربية مشرقية منفتحة لم يكن جبل عامل ولا جبل لبنان مرجعية لها. صحيح أني أتقنت الفرنسية ولكني منذ طفولتي كنت أقرا أدبا عربيا ومجلات عربية. كنت أقرأ نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم. الأدب اللبناني قرأته في ما بعد. جذوري مشرقية وليست لبنانية حصرا. هناك ثقافة عربية مشرقية ساهمت في تكويني. هناك أيضا مشرقية وكوزموبوليتية لبنانية. أنا أنتمي إلى هذا.
هذا واضح فعلا في مجمل أعمالك وأبحاثك. حتى في كتاباتك عن فيروز لا تعتبرها – بالمعنى الفني – لبنانية حصرا؟
أعتقد، بل أجزم، بأن الأخوين رحباني وفيروز يتجاوزان الهوية المحلية، وسحر نتاجهما يكمن في هذا التجاوز. على كل، دخلنا هنا في محور آخر، والحديث فيه متشعب ويطول.
تجارب
في سياق مماثل تقريبا، هناك إشارات إلى كونك مسلما، والبعض يُضاعف من تقديره لتجربتك انطلاقا من هذه الفكرة. رسام وبحاث مسلم ولكن متبحّر في الفن المسيحي، بل إن ذلك يطغى أحيانا على حقيقة أنك أصدرت مؤلفات عديدة عن الفنون الإسلامية.
لا أعتقد ذلك. حدث ذلك في 1993، يوم صدر كتابي الأول، “الأيقونة، معناها وتاريخها” في لغات عدة. بعدها أصدرت كتابا تناول المشارق المسيحية بين العالم البيزنطي والعالم الإسلامي، ثم كتابا تناول الفنون المسيحية الأولى، تلته ثلاثة كتب قبطية، وبعدها كتاب عن جداريات كنائس لبنان وسوريا. هذا اختصاصي الأساسي. كل هذه الأبحاث أنجزتها بالفرنسية، ونشرت في لغات أجنبية عدة، في أوروبا وفي أميركا، وأؤكد لك أن أي ناشر من الناشرين الذين أصدروا كتبي لم يسألني عن اسمي، فهذه الأبحاث لا تتحدث عني أصلا، لا من قريب ولا من بعيد، بل عن فنون من الماضي. هذه التعريفات المحلية اللبنانية لا تعنيني بالمرة. من جهة أخرى، كتبت أيام “ملحق النهار” سلسلة مقالات في مجالات فنية متنوعة، أبرزها فن الكتاب الإسلامي بفروعه المتنوعة، وأتمني أن أجد الوقت لتصنيفها ونشرها. في “الشرق الأوسط” كتبت طوال العام الماضي سلسلة تناولت فنون الجزيرة العربية قبل الإسلام، كما كتبت في مجال آخر سلسلة تناولت القصور الأموية وفنونها المدنية، وسأعمل على نشر كل من السلسلتين في كتاب مستقل، فهما متكاملتان بشكل عام.