مقالات
0
إحسان الفقيه
الأفلام الوثائقية والتسجيلية.. الفنّ المُهدَر في الوطن العربي
نشأ عن السينما فرع آخر أكثر واقعية وارتباطاً بالمنفعة البشرية، إضافة إلى أبعاده الترفيهية، وهو الفيلم التسجيلي أو الوثائقي، ويعرف وفقا للموسوعة البريطانية أنه نوع من الأفلام السينمائية غير الروائية، بمعنى أنه لا يتضمن قصة ولا خيالا، وهو يتخذ مادته السينمائية من واقع الحياة، فيصور هذا الواقع ويفسر حقائقه المادية أو يعيد تكوين هذا الواقع وتعديله بشكل يعبر عن الحقيقة الواقعة، هادفا بذلك إلى تحقيق غرض تعليمي أو غرض ترفيهي.
ويرتكز هذا الفن على ثلاث قواعد:
الأولى: التعامل مع عناصر واقعية ملموسة ليست من نسج الخيال، وتكون القصة هي المكان والمكان هو القصة، حيث تتناول مظاهر الحياة المتعددة بمحيطها الواقعي.
الثانية: توظيف عناصر الواقع لتفسير القضية أو الحدث، حيث يجرى تنظيم المادة على ضوء دراسة متأنية وفهم الواقع فهما عميقا.
الثالثة: عدم الاقتصار على الوصف السطحي للحدث أو القضية، وإنما يقدم الموضوع في قالب جذاب.
ولدت السينما التسجيلية في أواخر القرن 19، على يد الأخوين الفرنسيين لوي وأوغست لوميير، حيث قدما عرضا عنوانه “الخروج من مصانع لوميير ووصول قطار إلى محطة لاسبوتات”، في مدة لا تتجاوز دقيقتين، ويظهر فيه قطار يصل إلى محطة، وعمال يخرجون من مصنع، وبذلك كانا أول من اخترع الفيلم الوثائقي، كما قام الأمريكي إيدسون بوضع حجر الأساس لما يعرف بالسينما الإثنوغرافية عندما قدم سلسلة من الأفلام عن رقصات الساموا الهندية واليهودية.
مع تراكم الخبرات، تحولت السينما التسجيلية أو الوثائقية من مجرد تصوير مشاهد حية إلى فن يعبر عن وجهة نظر صاحبه، فتنوعت هذه الصناعة في مناهجها وموضوعاتها وتوجهاتها، حيث عرضت أفلاما وصفية وتحليلية وأفلاما تناقش أحوال البسطاء، وأخرى في النقد الاجتماعي، والتنمية البشرية.
ورغم اعتمادها بصورة أقل على جانب الإمتاع البصري والسمعي مقارنة بالسينما، إلا أن التقدم التكنولوجي قد أتاح لمجال الأفلام التسجيلية والوثائقية الدخول في مرحلة جديدة من مراعاة تلك الجوانب الترفيهية والإمتاعية.
وقد تم استغلال الفيلم التسجيلي في الدعاية السياسية في النظم الديكتاتورية، سواء في الاتحاد السوفييتي أو ألمانيا النازية، وعلى سبيل المثال: أخرجت ليني ريفيستاهل فيلما بعنوان “انتصار الإرادة”، كان الهدف منه إلقاء الضوء على جوانب البطولة في شخصية الزعيم النازي هتلر، وأثناء الحرب العالمية الثانية، أنتجت معظم الدول أفلاما حربية، تجسد الآثار المدمرة للحرب بتمويل حكومي في معظم الأحيان.
وعلى الرغم من أن المخرج الأمريكي مايكل مور يؤكد أن السينما التسجيلية استطاعت الخروج عن عزلتها، إلا أنها تواجه العديد من التحديات، أبرزها التمويل، وانكفاء وسائل الإعلام عن تغطية مثل هذه النوعية من الأفلام.
إن أهمية طرح موضوع الأفلام التسجيلية والوثائقية يكمن في أنها تعد مجالا لبناء الوعي الثقافي وتعزيز الانتماء الوطني والتنشئة الاجتماعية والتنمية البشرية والارتباط بالتراث والتاريخ، إلا أنه لم يأخذ حقه من الاهتمام والتطوير في مجتمعاتنا العربية.
والمعروف والمشاهد في العالم العربي، أن الفيلم الروائي يلقى اهتماما إعلاميا ودعائيا كبيرا أكثر بكثير من الفيلم التسجيلي، بينما في الدول الأوروبية يأخذ الاهتمام بالفيلم التسجيلي ذات الاهتمام بالفيلم الروائي أو قريبا منه، ومن ناحية أخرى يلجأ الفيلم الروائي للإنفاق على الحملات الإعلانية لكسب الجماهير ويخصص لها ميزانية، وهو الشيء الذي لا يتوافر في الفيلم التسجيلي.
ضعف الاهتمام العربي بالفيلم الوثائقي يرجع برأيي إلى سلوك رأس المال الذي يتجه غالبا لتحقيق الربح دون أن يكون الشأن العام ضمن أولوياته، وفي الوقت نفسه لا يمكن الاعتماد على التمويل الحكومي لمثل هذا المجال في ظل استيعاب الميزانيات العامة لمجالات أهم تتعلق بالضرورات المعيشية والحياتية كالصحة والتعليم وقطاعات الزراعة والصناعة ونحوها، خاصة في الدول العربية الفقيرة.
كما أن الجزء التثقيفي هو الأبرز في تلك النوعية وليس الترفيه، وهو لا يمثل ذروة اهتمام شرائح مجتمعية متعددة، إضافة إلى أن الإنتاج السينمائي يتعلق بالمردود السياسي وبالمنفعة الآنية أكثر.
هي إشارة لكل من يهمه الأمر، على الصعيد الرسمي أو الجماهيري، عسى أن يتم الاهتمام بهذا النوع من الأفلام، والذي يمكن أن يحدث طفرة علمية وثقافية في المجتمعات العربية، إذا توافرت له الإمكانات اللازمة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
مساحة إعلانية