من أعمال الفنان في مدينة كولونيا الألمانية (العربي الجديد)
جددت محكمة الاحتلال تمديد اعتقال الأسير الفنان شادي الحرّيم (مواليد 1978) للمرة السابعة في محكمة سالم، وهو معتقل منذ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 في سجن “عوفر”. يعيش الحرّيم واقعًا قاسيًا داخل سجون الاحتلال، حيث يواجه حالة صحية حرجة بعد تعرضه لنوبة دماغية قبل اعتقاله، وهو في حاجة ماسة إلى أدوية يمنع إدخالها إليه، بالإضافة إلى حرمانه من التواصل مع عائلته أو محاميه.
عمل الحرّيم معلّمًا للفن في مدارس وزارة التربية والتعليم في فلسطين، كما مارس مهنة الفلاحة، حيث كان ينتج سلة خضراوات لسكان بلدة سلفيت (60 كلم شمال القدس) ويبيعها بأسعار لا تخضع لسعر السوق، مما يعكس منظوره للصمود وأهمية المقاومة الشعبية.
الفن التفاعلي بوصفه وثيقة
منذ عام 2002، بدأ الفنان شادي الحرّيم ممارسة حرفته الفنية، مستكشفًا مساحات التعبير البصري بين اللوحة التقليدية والفن التفاعلي، في محاولة لفهم الواقع الفلسطيني ومواجهته بوسائل إبداعية حية. في أحد أبرز مشاريعه التفاعلية عام 2009، تناول قضية الأسرى الفلسطينيين من خلال عمل شارك فيه جمهور الشارع مباشرة، عبر كتابتهم أسماء أسرى يعرفونهم على قطع ورق مقوى، جمعها لاحقًا في تركيب بصري ضخم ضم أكثر من 500 اسم.
تناول قضية الأسرى الفلسطينيين بعمل شارك فيه جمهور الشارع
بعد نحو عام، طرح الحرّيم سؤالًا آخر في عمله “ثلاثون ثانية من الحلم”، إذ نشر إعلانًا في شوارع رام الله يدعو فيه الفلسطينيين من غزة المقيمين في الضفة الغربية إلى تسجيل أسمائهم ضمن مبادرة رمزية لزيارة عائلاتهم. لم يكن العمل دعوة حقيقية للعبور داخل الوطن الواحد الذي فصله الاحتلال، بل فسحة تخيلية تساءلت عما إذا كان الحلم ممكنًا، بعد أربع سنوات من الحصار والإغلاق الذي فرضه الاحتلال على قطاع غزة.
أتى هذا العمل تحديدًا في سياق سياسي مشحون؛ إذ فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، وواجهت على إثرها الحكومة الفلسطينية عزلة دولية وحصارًا اقتصاديًّا، سرعان ما تحول إلى حصار شامل بعد سيطرة حماس على غزة في يونيو/حزيران 2007. منذ ذلك الحين، فُرضت قيودٌ شديدة على التنقل بين غزة والضفة، لتشمل حتى الحالات الإنسانية والعائلية، مما أدى إلى تفكك التواصل الاجتماعي بين شطري الوطن.
وتقدر منظمات حقوقية، بينها “هيومن رايتس ووتش” و”بتسيلم” و”أوتشا”، عدد المواطنين الغزيين المقيمين في الضفة الغربية حتى عام 2010 بما يراوح بين 40,000 و70,000 شخص. كثير من هؤلاء يعيشون من دون القدرة على تغيير عنوان سكنهم الرسمي في السجل السكاني الفلسطيني، بسبب القيود الإسرائيلية المفروضة على تحديث بيانات الهوية. ويؤدي هذا إلى تعرضهم لخطر الترحيل أو فقدان الحقوق الأساسية، في ظل غياب تصنيف جغرافي رسمي دقيق ضمن الإحصاءات الفلسطينية.
نموذج لحركة الفن الأسيرة
تعكس أعمال شادي الحرّيم هذا الواقع المشطور والمنفي داخلياً، خصوصاً في ظل المشاريع التي يعمل عليها بعد حرب الإبادة الأخيرة على غزّة، والتي تتمحور حول ظاهرة نسف البيوت. يستقصي الفنان عبر هذه المشاريع العلاقة بين الذاكرة الجماعية والمكان المشوّه بفعل التدمير الإسرائيلي الممنهج، لافتاً إلى أن هذه التجربة لا تمسّ غزّة وحدها، بل تمتد إلى الضفة الغربية أيضاً، حيث يعاني الفلسطينيون سياسات الهدم والتشريد والتقسيم المكاني، التي تمزّق النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية. وبهذا المعنى، تتحوّل الممارسة الفنية عند الحرّيم إلى فعل مقاومة معرفي وشاهد بصري على مراحل العزل والفقدان.
وقد تزايدت حالات اعتقال الفنانين الفلسطينيّين بعد نكسة 1967، حيث اعتقل الفنان الراحل كمال بلاطة في عام 1969 لفترة وجيزة خلال فترة دراسته بسبب نشاطه السياسي المناهض للاحتلال، كما تعرّض الفنان التشكيلي سليمان منصور للاعتقال من قبل سلطات الاحتلال عامي 1981 و1982، حيث تم استدعاؤه واحتجازه، بالإضافة إلى تفتيش معارضه ومصادرة بعض لوحاته.
رغم هذه الممارسات القمعية، ظلّ الفن حاضراً بوصفه أداة مقاومة داخل المعتقلات، فتحوّلت الزنازين إلى مساحات للإنتاج الرمزي والصراع الثقافي مع الاحتلال. من داخل السجون، برز العديد من الأسماء الفنية مثل وليد دقّة (1961 – 2024) الذي استشهد في السجن ولا يزال جسده مُحتجزاً، مزاوجاً بين الكتابة والفن البصري، حيث صمم أغلفة كتبه بنفسه. كما عبّر الأسير محمد العارضة برسوماته الدقيقة التي كانت تهرّب إلى الخارج بوصفها رسائل تعكس الحنين والمقاومة. أما إبراهيم النمر، فقد استخدم النحت على الصابون بوصفه مادة متوفرة، ليجسّد الوجع الفلسطيني في منحوتات صغيرة وعميقة التأثير.
جدار الفصل العنصري في ألمانيا
تهتم أعمال الحرّيم بالقضايا الاجتماعية والسياسية متعددة الطبقات، والتي غالبًا ما تقترح دعوة إلى التفاعل بينها وبين الجمهور لما تتركه الأعمال من أثر بعد صناعتها، وللاقتراحات التي يجيدها الجمهور، مما يعمل على استكشاف اهتمامات المجتمع وطرق تفكيرهم وتفاعلهم مع الأعمال الفنية التي غالبًا ما يستهدفهم بها.
حوَّل الفنان شادي الحرّيم جدارَ الفصل العنصري (9+1) إلى عمل فني تفاعلي في ألمانيا عام 2011، حيث صنع قطعًا إسمنتية تشبه “الباز” ووضعها في شارع عام بمدينة كولون، من دون كشف هويته أو فكرته للمشاركين. تفاعل العابرون مع القطع عبر تحويلها إلى ألعاب أو منحوتات عبر الرقص، والقفز، أو بناء بيوت صغيرة أيضًا. هذا الانزياح عن المضمون السياسي كشف مفارقة مثيرة في تأويل العمل وقدرته على التعبير عن ذاته في بيئات مختلفة.
وشارك الفنان أيضًا في إنجاز تمثال الحصان عام 2003 في مدينة جنين مع الفنان الألماني توماس كيلبر. وكلاهما نفّذ إلى جانب فنانين آخرين التمثال في الذكرى الأولى لاجتياح مخيم جنين تخليدًا لشهداء المقاومة، عبر جمع مخلفات سيارات الإسعاف الفلسطينية التي تعرّضت للقصف والتدمير، وإعادة استخدامها في عمل فني ضخم للحصان الذي يرمز إلى الثورة والصمود تاريخيًّا، في التعبير الفني الذي وظّف هذه المفردة في الملصقات الفلسطينية.
* فنان تشكيلي مفلسطيني