مرت أعوام على رحيل عبد الرحمن الأبنودي، الذي فارق الحياة في 21 أبريل 2015، لكن صوته ما زال يتردد في أذن الوطن، وكلماته تنبض بالحياة في شوارع مصر وقلوب محبيه.
لم يكن الأبنودي شاعرًا فقط، بل كان حالة إنسانية خاصة، عبرت عن وجع الناس وأحلامهم، وكسرت حاجز النخبوية، لتجعل القصيدة العامية قريبة من الجميع، دون أن تفقد عمقها.
صوت الصعيد ومصر كلها
ولد عبد الرحمن الأبنودي عام 1938 في محافظة قنا، جنوب مصر، ورغم انتمائه لصعيد مصر، فإن صوته وصل إلى كل بيت، بلهجته المحببة، وصدقه العميق. لقب بـ”الخال”، لأنه كان أقرب من الأخ، وكتب عن الإنسان المصري في لحظاته البسيطة والموجعة.
كان الأبنودي مؤمنًا بأن الشعر العامي قادر على أن يحمل قضايا الوطن والناس، تمامًا مثل الفصحى، بل وربما بصدق أكبر، ولذلك لم يكن غريبًا أن نسمع قصائده في صوت عبد الحليم حافظ، أو نقرأها على لافتة في يد عامل، أو نرددها في ميدان أثناء لحظة ثورية.

قصيدة بحجم الوطن
كتب الأبنودي عن الحب، والسياسة، والحرب، والفقر، والهجرة، والهوية، وكل ما يمكن أن يمس الإنسان، ومن أبرز دواوينه:
الأرض والعيال: كان أول ديوان له، وسبب شهرته، وصدرت له طبعات متكررة.
الزحمة: ناقش فيه الزحام الحياتي والسياسي والفكري، ونُشر في عدة نسخ.
جوابات حراجي القط: رسائل شعرية من عامل بسيط في السد العالي إلى زوجته “فاطنة”، حملت دفء العلاقة وبساطة الحكي.
أحمد سماعين: رواية شعرية رسم فيها ملامح الإنسان الصعيدي.
الموت على الأسفلت: قصيدة طويلة عن وجع الفقراء والعمال.
الاستعمار العربي: تناول فيها قضايا القمع والحرية في العالم العربي.
وكان له أيضًا دواوين مثل: “أنا والناس”، “صمت الجرس”، “بعد التحية والسلام”، “وجوه على الشط”، “الأحزان العادية”، وغيرها.
السيرة الهلالية
من أكثر ما ارتبط باسم الأبنودي هو “السيرة الهلالية”، لم يكن مؤلفها، لكنه كان الراوي الأمين الذي أنقذها من الاندثار، وقضى سنوات من عمره يجمعها من أفواه الرواة في الصعيد، وسجلها في خمسة أجزاء، منها:
خضرة الشرنقة
أبو زيد في أرض العلامات
فرس جابر العقيلي
وترجمت أجزاء منها إلى الفرنسية، بفضل الباحث الطاهر فيفة عام 1978، ليصل هذا التراث الشفهي المصري الأصيل إلى جمهور عالمي.
نرشح لك: في أمسية أدبية.. «ثقافة نجع حمادي» يحتفي بدور الأبنودي في نهضة الأمة
ما بين الشعر والنثر
لم يكن الأبنودي شاعرًا فحسب، بل كان حكّاء بالفطرة، كتب كتابه الشهير “أيامي الحلوة” في ثلاثة أجزاء، ليحكي عن طفولته في قنا، ومواقفه الطريفة، وتأملاته في الناس والحياة، الكتاب كان صورة حية من مصر الريفية، ومن ذاكرة شاعر عرف كيف يدوّن التفاصيل الصغيرة قبل أن تختفي.
وكتب أيضًا دراسات مهمة في التراث والموسيقى، منها “غنا الغلابة”، الذي وثق فيه الغناء الشعبي.

والأبنودي والموسيقى
كلمات الأبنودي صارت أغاني خالدة بصوت عمالقة مثل عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، شادية، نجاة الصغيرة، ومحمد رشدي، حيث كتب لعبد الحليم “عدى النهار”، “أحلف بسماها وبترابها”، و”أحضان الحبايب”، وغيرها من الأغاني الوطنية والعاطفية.
ولعل من أعظم ما ميز كلماته أنها كانت “تُغنّى” بسهولة، وتصل إلى القلب بلا وسيط، لأن فيها من صدق الشارع وحرارة التجربة.
من الشعر إلى الحياة
لم يكن الأبنودي شاعرًا منعزلًا عن الحياة، بل كان في قلبها، حيث شارك في توثيق نبض الشارع، وانحاز للفقراء، وكتب لهم وبهم، كان شاهدًا على تحولات مصر، من زمن عبد الناصر إلى السادات ومبارك، ولم يتخلَّ عن موقفه النقدي أو عن انحيازه للبسطاء.
حتى بعد رحيله، ظل الأبنودي حاضرًا في وجدان المصريين، في المناسبات الوطنية، في المظاهرات، وفي الأغاني، وفي الذاكرة العامة التي لا تنسى صوتًا نقيًّا مثله.
رحيل الأبنودي؟
وفي 21 أبريل 2015، رحل عبد الرحمن الأبنودي، بهدوء يشبه صمته الأخير، لكن الحقيقة أنه لم يمت لأن من يكتب بصدق، ويحب الناس، ويمنحهم صوته، لا يرحل أبدًا، فالأبنودي موجود في كل بيت سمع له.