ربّما يكون للمال نصيب وافر في شعور المرء بالسعادة، إذ يمكنه من شراء ما يريد وقتما يريد، لكن هل هذه السعادة مماثلة لمن نجا من كارثةٍ لتوّه؟ أو من حقق نجاحًا كبيرًا؟ أو من اخترع تقنية غيّرت حياة البشر؟
وفي الحقيقة يختلف مفهوم السعادة من شخصٍ لآخر، كما أن لها وسائل عدّة، المال أحدها، لكنّه أيضًا قد يكون طريقًا للاكتئاب دون أن تلاحظ ذلك، فهل هناك علاقة بين الاكتئاب والثروة؟ وكيف يمكن للمرء الحفاظ على توازنه النفسي بغض النظر عن مستواه المالي؟
لماذا قد يكون الأثرياء أكثر اكتئابًا من غيرهم؟
ربّما ارتبطت الثروة والأموال بالسعادة وعيش حياةٍ أفضل، ومع ذلك، فقد اختلفت نتائج بعض الدراسات في العلاقة بين الثروة والاكتئاب، فمثلًا كان الثراء مرتبطًا بانخفاض معدلات الاكتئاب في الولايات المتحدة الأمريكية، حسب دراسة نشرت عام 2020 في “Annals of Epidemiology”.
فيما وجدت دراسة أخرى عام 2018 في المكسيك، نشرت في دورية “Journal of Mental Health”، أنّ مستويات الثروة العالية جدًا وكذلك المنخفضة جدًا قد ترتبط بزيادة الاكتئاب.
ورغم عدم إلمام الدراسات بالعلاقة بدقة بين الثروة والصحة النفسية، لتداخل كثير من العوامل الديموغرافية والاجتماعية والنفسية وغيرها، فقد يكون اكتئاب الأثرياء ناتجًا عن الأسباب الآتية:
1. الفراغ العاطفي:
لا تضمن الثروة والممتلكات الطائلة -رغم أهميتها- الإشباع النفسي أو العاطفي، فقد يظلّ المرء يشعر بالفراغ في داخله، خاصةً أنّ السعي وراء الثروة، يخلق ذلك الفراغ، الذي لا تملؤه الممتلكات المادية، وهذا الشعور بالفراغ قد يتسبَّب في شعورٍ بانعدام الهدف، وربّما المعاناة من أزمةٍ وجودية.
2. العُزلة والوحدة:
تأتي الثروة مع مستوى مُعيّن من العُزلة؛ إذ قد يكون الحفاظ على العلاقات أمرًا صعبًا، عندما يكون للمرء وضع مالي مميّز عن الآخرين، خاصةً إذا كانت إدارة ثروته وممتلكاته يستغرقان منه معظم الوقت تقريبًا.
وهذه العُزلة عن الآخرين، قد تفاقِم خطر الإصابة بالاكتئاب؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يعيش منعزلًا عن أصدقائه ومجتمعه لفترةٍ طويلة.
3. الخوف من فقدان الثروة:
كذلك قد يكون الخوف من فقدان الثروة مصدرًا مستمرًا للتوتر والقلق للأثرياء، كما أنّ الضغط المستمر للحفاظ على الوضع المالي الحالي أو زيادته، يُفضِي إلى حالة دائمة من القلق، مما يُنشِئ عقلية تهتم بالحفاظ على الثروة فقط دون التمتّع بها، ما يعرضه لضغوط تؤثر على صحته النفسية.
اقرأ أيضًا:هل تؤثر الثروة في صفات الأثرياء أم أنّ صفاتهم جلبت ثرواتهم؟
4. العلاقات الأسرية المُعقّدة:
قد تجعل الثروة العلاقات الأُسرية أكثر تعقيدًا مما كانت عليه، مما قد يؤدي إلى مشكلاتٍ، مثل:
فقدان الثقة بأفراد الأسرة.النزاعات حول الميراث.عبء الحفاظ على إرث العائلة.
وهذه التعقيدات من شأنها أن تُضعِف العلاقات داخل الأُسرة الواحدة، وربّما تسبِّب ضغوطًا عاطفية وشعورًا بالاغتراب عن العائلة، مما قد يُسهِم في الاكتئاب أو مشكلات الصحة النفسية لدى الأثرياء.
5. سقف التوقعات المرتفع والمثالية:
إنّ التوقّع المستمر للحفاظ على مستوى مرتفع من النجاح قد يؤدي إلى مثالية زائدة، ورغبة لا تتوقّف لتحقيق الإنجازات، وهذه الرغبة قد تكون ضرورية لتحقيق النجاحات والحفاظ على الثروة، لكن أن تكون التوقعات مثالية غير واقعية، قد يجعل ضرر تلك الرغبة أشدّ من فائدتها.
فالمثالية غالبًا ما تأتي مع توقّعات غير واقعية، مما يؤدي إلى انتقاد الذات باستمرار، بسبب تلك التوقّعات، بالإضافة إلى عدم تقدير الإنجازات التي تم تحقيقها بالفعل، مما قد يسهِم في الشعور بعدم الرضا في نهاية المطاف.
6. الافتقار إلى الدعم الحقيقي:
يفترض بعض الناس أنّ الثروة هي حل لجميع المشكلات، لكن هذا غير منطقي، فحاجات الإنسان مختلفة، والمال أحد هذه الاحتياجات وليس كلّها، وثمّة اعتقاد خاطئ بأنّ الأثرياء لا يحتاجون إلى دعمٍ عاطفي، لكنّهم في حقيقة الأمر قد يفتقرون إلى دعمٍ حقيقي من الآخرين، ومِنْ ثَمّ فقد يصعب عليهم التعبير عن مخاوفهم وما يواجهونه من عقبات.
7. الصدمات النفسية غير المُعالَجة:

الأثرياء ليسوا مُحصّنين ضد الصدمات النفسية، بل قد يؤدي إلى تعرّضهم إلى صدماتٍ نفسية غير مُعالَجة سابقًا، أو شعورهم بالذنب، فيما يتعلّق بثروتهم، إلى تأثير كبير على صحتهم النفسية، مما يتسبّب في اضطراباتٍ عاطفية لديهم وصراع داخلي، قد لا يبدو أثره عليهم في الظاهر.
اقرأ أيضًا:بين التباهي والشغف.. لماذا يستثمر الأثرياء في الفن؟
دراسات حول العلاقة بين الاكتئاب والثروة
الثراء مرتبط بالسعادة وتحسّن الصحة النفسية، خاصةً مع القدرة على اقتناء المرء ما يريد بأمواله، مقارنةً بمن لا يستطيع فعل ذلك، فقد أظهرت دراسة كندية نشرت عام 2007، في مجلة “International Journal of Mental Health Systems”، أنَّ الأشخاص ذوي المستويات العالية من الاكتئاب، كان دخلهم أقل من 10,000 دولار أمريكي في السنة.
ومع ذلك، فقد أظهر بحث آخر عام 2018 في دورية “PLoS One”، أنَّ البلدان الثرية، لديها مُعدّلات اكتئابٍ مرتفعة.
بل قد يكون الأطفال لأبوين ثريين أكثر عُرضةً لمشكلات الصحة النفسية، مثل الاكتئاب والقلق، حسب ما أشارت إليه دراسة عام 2005 نشرت في “Current Directions in Psychological Science”.
لكن أسباب ذلك الارتفاع المحتمل في معدّلات الاكتئاب بين الأثرياء غير واضحة تمامًا بعد.
استراتيجيات للحفاظ على التوازن النفسي
سواء كُنت ثريًا أم لا، فإنّ للمال أثره العميق على توازنك النفسي، وفيما يلي بعض الاستراتيجيات للحفاظ على توازنك النفسي بغض النظر عن المستوى المالي:
1. الوعي الذاتي:
لا بُدّ أن تكون واعيًا بذاتك أولًا، ورغباتك، وأهدافك، وتوقّعاتك، وخُذ وقتك في فهم ما يُحرِّك عواطفك، ويجعلك تحت ضغطٍ نفسي مستمر بشأن ثروتك، وتقبّل مشاعرك دون حُكمٍ عليها، واستعِن بخبيرٍ في الصحة النفسية ليساعدك.
2. التوازن بين العمل والحياة:
لا شكّ أنّ تحقيق هذا التوازن، ووضع حدود فاصلة بين العمل والحياة الشخصية، يُتِيح لك مزيدًا من الوقت للاستمتاع به في هواياتك، أو قضاء وقت إضافي مع من تحب، أو حتى الاسترخاء دون فعل شيءٍ، وهذا التوازن قد يكون ضروريًا لمن يعانُون اكتئابًا أو ضغوطًا نفسية ناجمة عن رغبتهم في الحفاظ على ثروتهم.
3. توطيد العلاقات:
قد تكون بحاجةٍ إلى تعزيز علاقاتك بأصدقائك وأقربائك، للتغلب على الشعور بالعزلة والوحدة، الذي غالبًا ما يؤدي إلى الاكتئاب ومشكلات نفسية متعدّدة.
فالتواصل الصادق والمفتوح مع الآخرين، يساعدك على الحصول على الدعم العاطفي الذي تحتاج إليه، خاصةً في الأوقات الصعبة، التي قد تواجِه فيها تحدّياتٍ مالية.
اقرأ أيضًا:متلازمة الثروة المفاجئة.. كيف ستتصرف لو أصبحت غنيًّا؟
4. الأنشطة الخيرية:
ربّما يكون الانخراط في الأنشطة الخيرية حلًا لدعم صحتك النفسية، خاصةً مع دعم الأنشطة التي تتماشى مع قِيمك الشخصية، مما قد يملأ الفراغ الداخلي الذي قد يُعانِيه بعض الناس، ويشعرون بإنجازٍ أكبر من مجرّد النجاح المالي الذي حقّقوه.
5. وضع أهدافٍ واقعية:
لا تقع في فخّ المثالية ومطاردة أهدافٍ غير واقعية، إذ حتمًا ستؤدي إلى استنزاف جهدك ونفسيتك دون فائدةٍ كبيرة، بل ضع أهدافًا واقعية، تقدر على الوصول إليها، مع التركيز على النموّ الشخصي أكثر من تحقيق نجاحات مادية كبيرة قد لا تكون واقعية.
6. ممارسة الامتنان:

وذلك بالاعتراف بالنِعم التي تتمتّع بها في حياتك وتقدير كل نعمة لديك، وقد يساعد على ذلك تدوين كل ما تشعر بامتنانٍ تجاهه، فهذا قد يحوّل تركيزك من الأمور المادية إلى الاستمتاع فعلًا بالحياة وما يحيطك من نِعم.
7. الحفاظ على صحتك:
لا ينبغي إهمال صحتك بأي حالٍ من الأحوال، بل لا بدّ أن يكون الحفاظ عليها في مرتبة أولوياتك، بتناول نظامٍ غذائي متوازن، وممارسة التمارين الرياضية بانتظامٍ، والحصول على قسطٍ كافٍ من النوم، فإهمال صحتك الجسدية، قد ينعكس سلبًا على صحتك النفسية، وصحتك النفسية هي رأس مالك الحقيقي في مواجهة التحدّيات المالية اليومية.