من معرض “هوانم” لبريت بطرس غالي في قاعة “ذا فاكتوري” بوسط القاهرة، 2023، (Getty)
في مشهدٍ يبدو مُتناقضاً مع الواقع الاقتصادي المتعثّر، شهدت القاهرة خلال العقدين الأخيرين طفرةً في أعداد قاعات العرض الفني. هذا الانتشار اللافت في زمن الركود الاقتصادي يثير تساؤلات جدية حول صمود سوق الفن أمام العاصفة. فلماذا يقتني المصريون الأعمال الفنية؟ وهل يعكس هذا الانتشار الواسع لصالات العرض في مصر سوقاً فنياً رائجاً ومستقراً؟ هل هو تعبير عن شغف حقيقي بالفن؟ أم أنه مجرد سباق نحو الوجاهة الاجتماعية؟ أم أن هناك دوافع أخرى خفية لا نلتفت إليها؟
في كثير من الأحيان، تبدأ رحلة الاقتناء بصدفة عابرة: لوحةٌ تجذب انتباه أحدهم في إحدى قاعات العرض، فيشتريها لتزيين منزله الجديد. لا يلبث هذا الفعل البسيط أن يتحوّل إلى ولع حقيقي. ولا يُعد هذا النمط سلوكاً فردياً استثنائياً؛ إذ تشير دراسة صادرة عن “جمعية اقتصاديات الفن” (ACEI)، إلى أنَّ نسبة كبيرة من جامعي الأعمال الفنية حول العالم يبدأون مجموعاتهم بدافع التزيين، قبل أن يتحوّل الأمر مع الوقت إلى شغف واهتمام شخصيّ، يتعمّق تدريجياً حتى يصبح من الصعب التخلّي عنه.
لكن، في المقابل، هناك شريحةٌ أخرى من جامعي الأعمال الفنية يلجأون إلى هذا السلوك من باب الوجاهة الاجتماعية. ففي مجتمع يزداد فيه التفاوت الطبقي، يصبح الفن أحياناً وسيلة للتمييز. التمييز هنا لا يعني الجانب الإيجابي المرتبط بالذوق والفن والثقافة، لكنه التمييز الاجتماعي أو ما يُعرف برأس المال الثقافي (Cultural Capital) عند عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930 – 2002).
لا يُقتنى العمل بسبب جماليته، بل لأنه موقّع من فنان مشهور
هنا، لا يتم اقتناء العمل الفني بسبب مقوّماته الجمالية، بل لأنه موقّع من فنان مشهور أو لأنّه معروض في “غاليري فلان”، أو لأنه “غالي الثمن”. الاقتناء في هذه الحالة يتحوّل إلى أداة لتعزيز التمييز الطبقي، فاقتناء لوحة لفنان معروف أو عملٍ نادر يصبح وسيلة لإثبات الانتماء إلى النخبة. وهنا يتحول الغاليري إلى “واجهة اجتماعية”، حيث تُقاس قيمة العمل بمدى قدرته على إثارة إعجاب الضيوف، لا بمضمونه الفني وقيمته الجمالية.
في القاهرة، لا تخطئ العين وجود قاعات عرض معيّنة تركّز على جمهور محدّد جداً؛ جمهور لا يقبل باقتناء العمل الفني لأنّه يحبّه، بل لأنه “يجب أن يقتنيه”. هذه القاعات تختار فنانيها على أساس شهرتهم، لا على أساس التجريب أو القيمة الفنية البحتة أو اللوحة التي يرسمونها.
وبعيداً عن الجمال والوجاهة، هناك سببٌ ثالث لا يمكن التغاضي عنه وهو الاستثمار. نعم، هناك من يتعامل مع العمل الفني كسهم في بورصة من نوع خاص. فاللوحة التي تُشترى اليوم بعشرة آلاف دولار، قد تُباع بعد خمس سنوات بـ100 ألف دولار. لكن هذا النوع الأخير من الاقتناء يواجه إشكالية كبيرة في مصر، وهي غياب الشفافية، وعدم وجود منظومة حقيقية لتقييم الأعمال وتوثيقها. وفي ظل غياب نقّاد محترفين أو دليل أسعار واضح، قد يصبح الاستثمار مغامرة شخصية.
تظلّ العلاقة بين الفنان والغاليري والمقتني محاطة بدرجات عالية من التعقيد. فكثيرٌ من الفنانين الشباب يواجهون استغلالاً مباشراً، حيث تُباع أعمالهم بأسعار لا تعكس قيمتها الفنية الحقيقية، لا لشيء سوى افتقادهم للحماية القانونية أو عقود تضمن لهم حقوقهم. وعلى الجانب الآخر، يعبّر بعض المقتنين عن قلقهم من غياب الشفافية، خاصّة حين يتعلّق الأمر بأعمال فنيّة لفنانين راحلين، حيث يصعب أحياناً التحقّق من مصدر العمل أو الحصول على شهادة توثيق رسمية.
هذه الثغرات تخلق مساحة رمادية تضعف ثقة المشترين وتُربك حركة السوق، وتجعل من سوق الفن المصري كياناً هشاً إذا ما قورن بنظيره في الأسواق العالمية الأكثر تنظيماً واحترافية. نصل هنا إلى السؤال الجوهري: هل توجد في مصر ثقافة اقتناء فنية مستقرة؟ وهل أصبح اقتناء الأعمال الفنية جزءاً من الوعي المجتمعي العام؟
عدم وجود منظومة حقيقية لتقييم الأعمال الفنية وتوثيقها
الواقع يشير إلى أننا لا نزال بعيدين عن هذه المرحلة. ففي المجتمعات التي تتمتع بتقاليد فنية راسخة، يبدأ الاقتناء من سن مبكرة، عبر معارض المدارس، وزيارات المتاحف المفتوحة، ووجود سوق نشط للأعمال الصغيرة والمتوسطة التي تُتاح لعامة الناس. أما في مصر، وغيرها من البلدان العربية، فلا يزال الاقتناء الفني محصوراً بين ثلاث دوائر: الثراء أو المصادفة، أو شغف فردي لدى قلة من المتذوقين. لا يوجد بعد ذلك المفهوم الجماهيري الذي يرى في الفن جزءاً طبيعياً من حياة الأسرة اليومية، أو مكوناً من مكونات الثقافة المنزلية. ما زلنا نتعامل مع الفن كشيء نخُبوي، لا كشريك في تكوين الذوق العام أو في صياغة الوعي الجمالي لدى الأفراد.
تبقى قضية تطور سوق الفن في مصر رهناً بعدة عوامل مترابطة، أبرزها دور التعليم في غرس الوعي الفني منذ الصغر، وضرورة وجود نقاد متخصصين قادرين على صياغة ذائقة فنية رصينة، وهذا بالطبع دون إغفال الدور المحوري للدولة في تنظيم هذا السوق ودعمه. إن الفن المصري يقف اليوم عند مفترق طرق بين كونه تعبيراً أصيلاً عن روح المجتمع، أو مجرد سلعة نخبوية تكرس الفجوات الطبقية. ولعل تحويل الاقتناء الفني من كونه ممارسة نخبوية إلى ثقافة جماعية راسخة، يتطلب بناء منظومة متكاملة. هذه المنظومة يجب أن تقوم على شفافية السوق، وتطوير التعليم الفني، وإرساء توازن دقيق بين الاعتبارات التجارية والقيمة الجوهرية للأعمال الفنية. فكما أن غياب هذه العناصر يحول دون نضوج السوق، فإن تحقيقها سيطلق بلا شك الطاقات الإبداعية الكامنة.
إن مستقبل الفن في مصر، رغم كل التحديات، يبقى واعداً بشرط أن نتعامل معه ليس كمجرد سوق استثماري أو وسيلة للتمييز الاجتماعي، بل كرافد أساسي للهوية والتنمية. فالفن الجيد هو ذلك القادر على الجمع بين الأصالة والحداثة، بين القيمة المادية والعمق الإبداعي، بين الذائقة الفردية والوعي الجمعي.
* كاتبة من مصر