يعتبر فن تشكيل الزجاج من أرقى الفنون الحرفية التي تمزج بين الدقة التقنية والحس الجمالي، وهو فن ضارب في القدم، يعود إلى قرون مضت، ولا يزال محافظا على تفرّده وسحره البصري حتى اليوم. فهذا الفن يمنح الفنان مساحة واسعة للتعبير، حيث تتحول المادة الشفافة والهشة إلى أعمال تنبض بالألوان والضوء والتكوين الفني.
وفي هذا السياق، زارت «الجريدة» ورشة الفنان محمد الدويسان، الكائنة في بيت العثمان بمنطقة حولي، للتعرف عن قرب على تجربته المتميزة في هذا المجال، والحديث معه حول أصل هذا الفن، والإنجازات التي حققها، والطموحات التي يسعى إليها لنشر ثقافة تشكيل الزجاج وتعزيز حضورها محلياً.
وفي مستهل حديثه، وصف الدويسان دولة الكويت بأنها «مورانو الخليج»، موضحا أن ورشته تُعد الأولى من نوعها في الخليج العربي المتخصصة في هذا الفن الدقيق، والذي يجمع بين الحرفة اليدوية والجمال البصري، مستلهماً ذلك من تقاليد مدينة مورانو الإيطالية، التي تشتهر عالمياً بصناعة الزجاج الفاخر.
وقال الدويسان إن الورشة تمثّل ثمرة جهد استمر 8 سنوات، موضحا أن المشروع استغرق وقتا طويلا في تأسيسه والتجهيز، بسبب ندرة المعرفة المتخصصة في هذا المجال داخل الكويت والخليج العربي، مضيفا: «لا تتوافر له بنية معرفية جاهزة، لذلك تطلّب المشروع وقتًا وجهدًا كبيرًا لتكوينه بالشكل المناسب».
وأشار إلى أن الورشة لا تزال في طور التطوير، حيث يتم حاليًا إضافة بعض التخصصات الفنية البسيطة، ضمن خطة لتحويل المشروع إلى مركز إقليمي متخصص.
فن أتمنى لأبنائنا أن يتبنوه ليكون جزءاً من ثقافتنا الفنية
وأشار الدويسان إلى أن عملية تصنيع زجاج المورانو تتم داخل أفران خاصة تصل حرارتها إلى 1150 درجة مئوية، حيث تُذاب مواد مثل السيليكا، والصودا، والجير، والبوتاسيوم معا، لتكوين مادة زجاجية سائلة، تشكّل لاحقا باستخدام تقنيات دقيقة ويدوية في الغالب. وأوضح أن زجاج المورانو يختلف تماماً عن الزجاج المستخدم في النوافذ والأغراض العادية، سواء من حيث التركيبة أو الجمالية أو طريقة التصنيع، مما يجعله فناً قائماً بحد ذاته أكثر من كونه مجرد مادة خام.
تفاعل ملحوظ
وأوضح أن مشروع ورشة تشكيل الزجاج بدأ يحظى بتفاعل ملحوظ من عدد من المسؤولين، نظراً لما يحمله من أبعاد متعددة، تشمل الجانب التعليمي، وإعادة التدوير، فضلا عن البُعد الثقافي والفني، موجها شكره وتقديره لقيادات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وعلى رأسهم الأمين العام د. محمد الجسار، والأمين العام المساعد لقطاع الفنون مساعد الزامل وكل القطاعات التي ساندت المشروع في بداية انطلاقته، وذلك على ما قدّموه من دعم ومساندة، وعلى وجه الخصوص خلال افتتاح الورشة بتاريخ 3 مارس 2024، إذ حظيت بإشادة واسعة ونجاح لافت، حيث كان الافتتاح مناسبة مهمة جمعت خبرة دولية، من خلال استقطاب نخبة من أمهر الفنانين، إلى جانب مشاركة متميزة من صاحب المصنع الأميركي فيليب فنسين، القادم من الولايات المتحدة، مبينا أن الافتتاح حظي بنجاح باهر وثناء من المسؤولين، مؤكدا أن هذا الدعم يشكّل دافعاً حقيقياً للاستمرار.
معايير وتحضيرات
من جانب آخر، أكد أن ما يميز المشروع – كما قال آنفا – هو انطلاقه من الكويت، لتكون الدولة الأولى في مجلس التعاون الخليجي التي تتبنى هذا النوع من الفنون المتخصصة، معرباً عن تطلعه لأن يتحوّل المشروع إلى مبادرة إقليمية واسعة النطاق.
وأضاف الدويسان: «نطمح إلى توسيع نطاق المشروع، لكننا بحاجة إلى مساحات أكبر ومعدات إضافية لتلبية متطلبات التوسع، وهي أمور يمكننا تحقيقها من خلال الخبرات التي نمتلكها، وعلاقاتنا مع شركائنا الاستراتيجيين في الخارج، فلدينا فنيون، وفنانون، ومنظمات أبدت استعدادها للمساهمة في تطوير هذا المشروع ودعمه».
تصنيع زجاج المورانو يتم داخل أفران خاصة تصل حرارتها إلى 1150 درجة مئوية
وعند سؤاله عمّا إذا كان يفكر في تنظيم معرض فني شخصي له في المستقبل، أوضح الدويسان أن إقامة معرض لأعمال الزجاج ليس بالأمر السهل، نظراً لما يتطلبه هذا الفن من معايير دقيقة وتحضيرات. وأضاف: «في المستقبل أفكّر في تنظيم معرض لنتاج أعمال المتدربين في الورشة، أو ممن شاركوا في دورات تدريب تحت إشرافي، وذلك لإبراز مهاراتهم وتقديراً لجهودهم، ولتشجيعهم على الاستمرار في هذا المجال».
وأوضح أنه قام بتبسيط المادة العلمية وتسهيل الوصول إلى هذا الفن للجميع، مشيرًا إلى أن هذا الفن ليس حكرًا على المصانع الكبيرة، مضيفا: «قمنا بتبسيط إجراءات التدريب لتكون في متناول المشاركين، وحرصنا على أن نُدرّبهم على مجمل هذا الفن بطريقة عملية، الفكرة أن مهارات تطبيق هذا الفن يمكن أن تُكتسب بسهولة وتُطبّق حتى في المشاريع الصغيرة أو داخل المنازل».
وأكد أن هذا الفن يتيح للمشاركين فرصًا حقيقية لتأسيس مشاريع متناهية الصغر، باستخدام أدوات بسيطة لا تتطلب حرارة عالية أو تجهيزات صناعية معقدة، مما يجعل هذا النوع من الفن متاحًا لكل من يملك الشغف والرغبة في الإبداع، مردفا «هدفي ليس فقط التعليم، بل خلق فرص اقتصادية صغيرة، وتحفيز الأفراد على تحويل هوايتهم إلى مصدر دخل، مما يُسهم في نشر هذا الفن على نطاق أوسع داخل المجتمع»، إضافة إلى أن هذا الفن يستقطب السياحة لتكون الكويت نقطة للتصميم والابتكار واستلهام التصاميم من بيئتنا الخليجية.
الخامات المستخدمة
أما من ناحية الخامات المستخدمة في الورشة، وعلى رأسها الزجاج، فأشار الدويسان إلى أنه قام مسبقاً بتأمين كميات جيدة من المواد الأساسية لضمان استمرارية العمل، رغم أن أسعار المواد الخام مرتفعة نسبياً. وأضاف أن الجانب الإيجابي في الأمر هو ما تعلّمه من الخبراء والفنيين المتخصصين الذين أتاحوا له فهماً أعمق لكيفية تحويل نفايات ومخلفات الزجاج إلى أعمال فنية ذات قيمة.
الدويسان: يمكن الاستفادة من مخلفات الزجاج وإعادة تدويرها بشكل فعّال
وقال: «هذا أمر مهم ومفيد للغاية، ليس فقط من الناحية البيئية، بل لأنه سيسهم في إنتاج خط خاص من الأعمال المعاد تدويرها داخل الورشة، مما يضيف بعداً مستداماً للمشروع من حيث إمكانية الاستفادة من مخلفات الزجاج وإعادة تدويرها بشكل فعّال، تماماً كما هي الحال مع البلاستيك، مؤكدا أن الزجاج يُعد مادة قابلة للتحويل الفني، ويمكن تطويعه لإنتاج قطع إبداعية ذات قيمة جمالية».
وأكد الدويسان أن المشاريع الفنية والإبداعية التي تنطلق من الهوية الخليجية تُعد من المبادرات الواعدة في سوق العمل الحديث، مشيرًا إلى أن هذه المشاريع لا تكتفي بالجانب الجمالي، بل تحمل قيمة اقتصادية وثقافية مضافة.
وتابع: «من خلال معرفتي بسوق العمل، أرى أن هذا النوع من المشاريع يُشكّل توجهًا واعدًا مليئًا بالتحديات والابتكارات، ويُمهّد لتقديم محتوى أفضل يخدم الذوق العام والهوية المحلية».
وأشار إلى أن البيئة الخليجية غنية بالعناصر التراثية التي يمكن تحويلها إلى تصاميم معاصرة ذات طابع فني جميل، موضحا أن كثيرا مما كان يُستخدم في الماضي يمكن أن يُعاد تقديمه اليوم كقطع فنية قابلة للعرض والتسويق.
وحول المنهج التدريبي والورش التي يقدّمها للمشاركين، قال الدويسان إنها لا تقتصر فقط على الجانب الفني، بل تفتح لهم آفاقاً عملية تمكّنهم من إطلاق مشاريع صغيرة أو العمل من المنزل، تماماً كما بدأ هو مسيرته الفنية من منزله، مدفوعاً بالشغف وحب هذا الفن. وأشار إلى أن فن تشكيل الزجاج يتطلب وقتاً وجهداً وصبراً حتى يصل الفنان إلى المستوى المطلوب، مؤكداً أن ما حققه من تطور في تجربته جاء نتيجة اطلاعه المستمر، واحتكاكه المباشر بفنانين عالميين، وسفره الدائم، مما أتاح له تكوين رؤية متكاملة وناضجة ساعدته في نقل المعرفة وتطوير مهارات المتدربين.
تميّز الفن الكويتي
وفي ختام حديثه، عبّر الدويسان عن أمله في أن يشهد هذا الفن إقبالاً أكبر من الأجيال القادمة، قائلاً: «أتمنى أن أرى أبناءنا وهم يتبنون هذا الفن وهذه الحرفة العريقة، لتكون جزءاً من ثقافتنا الفنية».
وشدّد على أهمية الدعم المؤسسي والانطلاقة القوية لضمان استمرارية هذا المشروع، موضحا أن الطموح لا يقتصر على المستوى المحلي فقط، بل يشمل تصدير المنتجات الزجاجية الحرفية إلى دول الخليج والعالم العربي، وحتى إلى الأسواق العالمية، بما يعكس تميّز الفن الكويتي في هذا المجال.