من أرض النشامى وأردن الشهامة، الذي لطالما عُرف بشجاعة أبنائه، وكرمهم، وعراقتهم في الدفاع عن الحق، ينبع تصميم الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية التي تم إطلاقها مؤخرًا في الأردن. فالاستراتيجية ليست مجرد مجموعة من السياسات والبرامج الحكومية، بل هي تعبير عميق عن قيم أردنية راسخة، شكّلت على مرّ العصور هوية هذا المجتمع. في كل ركن من أركان الاستراتيجية، نجد بصمات قيمنا الثقافية والاجتماعية: الكرامة، التكافل، العدالة، والصمود. فكيف لاستراتيجية بُنيت على هذه الأسس القوية ألا تحقق غاياتها وتعزز صمودها في وجه التحديات؟اضافة اعلان
الكرامة: حماية الناس أولا وإغاثة الملهوف
الكرامة في الثقافة الأردنية لا تقتصر على كونها حقًا فرديًا، بل هي قيمة مجتمعية أصيلة تُعنى بحماية الإنسان أياً كانت حالته. فالأردنيون، الذين اعتادوا الاحتشاد معًا في الأوقات الصعبة، يعتبرون حماية الآخر ورفاهيته جزءًا من مسؤوليتهم الجماعية. في هذا السياق، يأتي تركيز استراتيجية الحماية الاجتماعية على الكرامة ليعكس هذا المبدأ العميق: “الإنسان أغلى ما نملك”. إذ لا تكون المساعدات مجرد تقديم دعم مادي، بل هي تعبير عن حماية كرامة الإنسان، وتوفير البيئة التي يضمن فيها كل فرد أن يُعامل بالاحترام ويعيش حياة مليئة بالأمل.
هذا الإيمان العميق بالكرامة ينسجم مع مبدأ “إغاثة الملهوف” الذي يشكّل حجر الزاوية في ثقافة التضامن الأردني. في وقت الأزمات، لا يتوانى الشعب الأردني عن مد يد العون للمحتاجين، سواء كانوا من أبناء الوطن أو من اللاجئين والمستضعفين. وإن كانت صناديق الخير والزكاة موجهة بشكل أساسي لدعم الأردنيين الأكثر هشاشة، فإن دعم اللاجئين يتم من خلال برامج خاصة ومموّلة تُدار بروح العدالة الإنسانية، بما ينسجم مع التزامات الأردن الأخلاقية والدولية. إن ثقافة إغاثة الملهوف ليست مجرد رد فعل عاطفي، بل هي واجب إنساني وأخلاقي راسخ في قيمنا.
التمكين: بناء الذات والمجتمع معًا
التقدير العميق للتمكين في الثقافة الأردنية يعكس رؤية متجددة للمستقبل. فمن عمق تاريخي انعكس في إصرار الأردنيين على الاستثمار في تعليم أبنائهم وتسليحهم بالأدوات اللازمة ليصنعوا مستقبلهم جاء محور التمكين، الذي لم يقتصر على توفير الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، بل أكدت الاستراتيجية على التمكين كنهج شمولي لتحسين جودة الحياة من خلال الاعتماد على الذات وبناء فرد قادر على التكيف مع الظروف ومجتمع قادر على مواجهة التحديات. في هذا الإطار، كان لا بد من التطرق إلى وجود بيئة تشريعية وسياسية داعمة للمبادرات والبرامج ذات العلاقة ودمجها في الأولويات الوطنية والخطط المتعلقة بالإصلاح الإداري والتحديث الاقتصادي.
الفرصة: العدالة التي تصنع الفرق
الفرصة، في الثقافة الأردنية، ليست مجرد امتياز، بل هي حق مقدس يجب أن يتاح للجميع. في مجتمعنا، لا يُنظر إلى الفرص على أنها تفضيلات، بل كحقوق طبيعية لكل إنسان. استراتيجية الحماية الاجتماعية تأخذ هذه القيم بعين الاعتبار، وتسعى لتوفير بيئة اقتصادية واجتماعية تتيح للجميع -من الشباب إلى النساء، إلى اللاجئين، إلى الأشخاص ذوي الإعاقة- الحصول على فرصة عادلة لتحقيق الذات والاندماج في سوق العمل.
من خلال الضمان الاجتماعي، وخدمات سوق العمل، وتهيئة البيئة الاقتصادية للجميع، تسهم الاستراتيجية في بناء مجتمع لا يُحرَم فيه أحد من حقه في فرصة. من خلال هذه المبادئ العميقة، تُترجم الحكومة الأردنية رؤية المجتمع الذي يسعى لتحقيق العدالة والمساواة.
الصمود: التضامن الأردني
في مواجهة الأزمات
في قلب المجتمع الأردني ينبض تضامن عميق، يتجلى في الصمود أمام الأزمات. سواء كان ذلك في مواجهة صدمات اقتصادية أو أزمات إنسانية بسبب الظروف السياسية في المنطقة، فإن الشعب الأردني أثبت مرارًا وتكرارًا قدرته على الصمود والتعاون.
من خلال محور “الصمود”، تسعى الاستراتيجية إلى ضمان قدرة الأردن على الاستجابة للأزمات، ولكنها تتجاوز ذلك إلى بناء مجتمعات قادرة على التكيف والنمو رغم الصعوبات. وهذا يعكس قناعة راسخة في المجتمع الأردني بأن الأزمات ليست نهاية الطريق، بل فرصة لإظهار قوة الإرادة والوحدة، ويأتي ذلك من خلال تكافل المجتمعات المحلية وتعاونها في مواجهة التحديات.
مؤسسة الحسين للسرطان نموذج في الرعاية والحماية
من هذا الإطار الوطني المتين، تنبثق تجربة مؤسسة الحسين للسرطان كنموذج حي يجسد مبادئ الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية في أدق تفاصيلها. هذه المؤسسة، التي لا تُقدم فقط العلاج الطبي، بل تبني حول المريض منظومة حماية كاملة، تعكس الرؤية الأردنية الأصيلة التي تضع الإنسان في قلب كل سياسة وبرنامج. فمن خلال برامج صناديق الخير والزكاة، والتأمين الصحي التكافلي، والدعم الاجتماعي والمادي، يتمكن المرضى من تلقي العلاج من دون أن تقف الظروف المادية عائقًا أمام كرامتهم.
وتستمر المؤسسة في دورها الوطني من خلال تمكين الأطفال المرضى من مواصلة تعليمهم داخل المركز، ودعم طلبة التوجيهي، وتقديم المنح الجامعية الموجهة نحو التعليم المهني والتقني. وفي ذلك تأكيد على أن التعليم والتمكين لا يجب أن يتوقفا عند المرض، بل يصبحان وسيلة للصمود والاستمرار.
كذلك، لا تغيب العدالة عن رؤية المؤسسة، إذ تعمل على ضمان عودة المرضى وذويهم إلى بيئة عمل مرنة وشاملة، تحافظ على استقلالهم المالي وتعزز إنتاجيتهم بعد الشفاء. هذه المبادرات لا تمس حياة الأفراد فقط، بل ترفع من منسوب العدالة المجتمعية وتعزز الاندماج الاقتصادي لكل من خاض تجربة المرض.
ولأن مرض السرطان ذاته يعد صدمة وجودية، فإن المؤسسة تواكب المرضى وأسرهم بدعم فوري واستجابات طارئة، خاصة في حالات النزوح والصراعات، مما يجسد مفهوم الصمود المجتمعي لا كفكرة مجردة، بل كواقع يومي حي.
إن هذا التكامل بين مؤسسة الحسين للسرطان والاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية لا يمثل مجرد تعاون قطاعي، بل هو نموذج لشراكة وطنية تضع الإنسان أولًا، وتعيد تعريف الرعاية الشاملة باعتبارها مسارًا للكرامة، والعدالة، والتمكين، والصمود.
إستراتيجية نابعة من الشعب، لا تهزم
استراتيجية الحماية الاجتماعية في الأردن ليست مجرد خطة حكومية لتوفير الدعم أو الخدمات، بل هي انعكاس حي لضمير المجتمع الأردني، وتجسيد لتاريخه العميق في التضامن والتكافل. وعندما نرى نماذج حية، مثل مؤسسة الحسين للسرطان، تترجم هذه المبادئ إلى فعل، ندرك أننا نسير في الاتجاه الصحيح نحو حماية لا تُقصي أحدًا، وفرصة لا تُمنح بتمييز، وكرامة لا تُمس.
عندما نضع هذه القيم وهذه النماذج في قلب الاستراتيجية، تصبح الحماية الاجتماعية أكثر من مجموعة مبادرات؛ تصبح رؤية وطنية شاملة تجسدها القيادة والحكومة والمجتمع معًا. إنها استراتيجية نابعة من الشعب، لا تهزم.
*المدير العام لمؤسسة الحسين للسرطان