لم يكن حضور الفنان الكويتي حسين المنصور إلى مهرجان الدانة للدراما في البحرين مجرّد ظهورٍ على السجادة الحمراء، بل كان أشبه بعودة الصوت الذي طالما تحدّث باسم جيلٍ من المبدعين الذين صنعوا ذاكرة الدراما الخليجية. بإطلالته الوقورة وكلماته الصريحة، لم يهادن، ولم يجامل، بل وجّه سهام النقد نحو واقعٍ يراه مختلّ الموازين، ملوّثًا بترندات زائفة وشهرة رقمية لا تليق بتاريخ الفن الحقيقي.
في ركنٍ هادئ، بعيدًا عن ضجيج الكاميرات جلسنا معه ليبوح “للبلاد” بما في داخله. تحدّث بحرقة، بحب، وبغضب الفنان الغيور، منتقدًا تقييم الفنانين بعدد “الفانز”، ورافضًا التعامل مع “الشهرة اللحظية” على أنها بطاقة عبور إلى قلب الدراما.
“أنا ما أشتغل مع منتج يقيسك بعدد متابعينك” هكذا صرخ حسين المنصور بصوته الجهوري، مؤكدًا أن الفن ليس سلعة، بل حياة، وأن الجيل الذي صنع أعمالًا عاشت لعقود لن يقبل أن يُستبدل بظاهرة تموت مع نهاية الفيديو.
*لنتحدث بصراحة، كيف ترى واقع الجوائز الفنية اليوم؟
“الدانة” ليست مجرد جائزة فحسب، إنها لحظة نادرة نشعر فيها بأننا ما زلنا ننتمي لأسرة فنية حقيقية. أن يجتمع فنانون من البحرين، الكويت، السعودية، الإمارات، وبقية دول الخليج والوطن العربي ممن صنعوا ذاكرة فنية عريقة، فهذا بحد ذاته تكريم. الجوائز مهمة، نعم، لكن الجوهر في اللقاء. نتحاور، نختلف، نضحك، نستعيد الذكريات، هذا هو العُمق الذي لا تمنحه المنصات الإلكترونية ولا الفلاشات العشوائية. بعض الجوائز اليوم في خطر لأن بعض من يمنحونها باتوا يُقيّمون الفنان بعدد اللايكات والمتابعين، لا بالإبداع ولا بالعطاء.
أصبح المشهد وكأننا نعيش في بورصة “ترندات”، من يصرخ أكثر، من يرقص أمام الكاميرا، من يظهر في التيك توك هل أصبح هذا هو الفنان؟ هذه إهانة لكل فنان صنع مجد الفن لسنوات عديدة.
*إذن تعتقد أن هناك تزييفًا في معايير التقييم؟
التزييف صار علنيًا اليوم تجد عملاً دراميًا يُنجز في 30 يومًا، بدون روح، بدون عمق، ويُعرض وكأنه تحفة. لا يوجد اهتمام بالسيناريو، لا وقت كافٍ للإخراج، وحتى الممثلون يُختارون حسب عدد متابعيهم على إنستغرام. هذا يُسمّى إنتاجًا تجاريًا، لا فنيًا. أما بالنسبة لفناني وسائل التواصل ليسوا دخلاء على الوسط الفني بل هم موجة. وربما ينفعون في برامج الواقع أو الإعلانات، أما في الفن الحقيقي؟ فلا مكان لهم إن لم يحملوا موهبة. بعضهم لم يُمثّل مشهدًا واحدًا يُحرك إحساس المشاهد، ومع ذلك يحصل على بطولات ومساحات، فقط لأنه “يترند”. هذا عبث.
*أصبح الجمهور اليوم يبحث عن الترند أليس كذلك؟
هؤلاء يضحكون معك اليوم وينسونك غدًا. الجمهور الحقيقي هو الذي يحفظ أسماءك وأعمالك لعقود. الفن ليس نكتة عابرة على “ريلز”، الفن رسالة، والفنان مرآة مجتمعه، لا مهرّج يسعى وراء الفلّورز. وبالمناسبة أتذكر مررت بتجربة شخصية مع منتج يُقيّمني بعدد متابعيني وقالها لي أحد المنتجين صراحة: “فلانة نبيها لأنها عندها فانزات أكثر!” قلت له: مع السلامة. لا أساوم على تاريخي، ولا أتنازل لفكرة أن يقيس أحدهم قيمتي الرقمية. لست رقمًا في إحصائيات. أنا ممثل أُقاس بما قدّمته، لا بما شاركته على السوشال ميديا.
*ماذا بينك وبين جيل الترند، البعض قد يراك قاسيًا في الحكم على الجيل الجديد؟
لا، لست قاسيًا، أنا واقعي وصريح ومدافع شرس عن كل النجوم الذين سطروا بدماء إبداعاتهم تاريخ الفن، هناك شباب يشتغلون بصدق ويمتلكون الموهبة، وهؤلاء أرفع لهم القبعة. لكن من يعتمد على التجميل والفلاتر، ويريد أن يصبح “نجمًا” في ليلة؟ هذا لا مكان له بين الفنانين الحقيقيين. الفن ليس خدعة بصرية، إنه إحساس، صدق، وتاريخ.
*ما الفارق الجوهري بين جيلكم وجيل اليوم؟
جيلنا كان يشتغل من قلبه. لم تكن لدينا ميزانيات ضخمة، ولا كاميرات احترافية مثل اليوم لكن كان لدينا إحساس. كنا نعيش مع كل مشهد، نُحسّ بالشخصية، نذوب فيها. اليوم؟ كثير من الأعمال مصنوعة “للإيفنت” و”للترند”… كأنها إعلان تجاري لا أكثر.
*توقفتَ عن التمثيل لسنوات بعد وفاة شقيقك الفنان منصور المنصور، ماذا تغيّر داخلك؟
بعد رحيله، شعرت وكأنني فقدت جزءًا من روحي، سنوات عديدة لم أستطع الوقوف أمام الكاميرا ولم يكن الحزن فقط، بل كان الانكسار. لكن عيالي كبروا، وحفيدي صار يقول لي: “يابوي، متى ترجع؟” فعدت شيئًا فشيئًا. واليوم نحضّر لعمل كوميدي اجتماعي، فيه نكهة الماضي ولمسة الحاضر.
*أين موقع الفنانين القديرين اليوم وسط زحام الترندات وموجة السوشال ميديا؟
إنه الوتر الحساس الذي لا نقوى على استفزازه، إنهم يُعاملون أحيانًا وكأنهم “ديكور شرفي” وهذا جرح. نُكرمهم في نهاية حياتهم، ولا نعطيهم أدوارًا إلا مجاملة! أين الوفاء؟ الفنان الكبير لا يحتاج إحسانًا، بل يحتاج تقديرًا وهو في أوج عطائه. أتذكّر ما قاله الراحل عبدالحسين عبدالرضا: “الفن يجري في دمي”… وأنا أشعر بذلك تمامًا. الشهرة تُصنع في ثانية لكنها تختفي في الثانية التالية. من يُمثّل بحثًا عن تصفيق اللحظة، سينطفئ مع أول موجة. أما من يُمثّل لأنه يحمل رسالة، ولأنه يعيش الفن بصدق فسيبقى. لا تصنعوا صورتكم في فلتر، بل اصنعوا تاريخكم في قلوب الناس.
تنبه صحيفة البلاد مختلف المنصات الإخبارية الإلكترونية الربحية، لضرورة توخي الحيطة بما ينص عليه القانون المعني بحماية حق الملكية الفكرية، من عدم قانونية نقل أو اقتباس محتوى هذه المادة الصحفية، حتى لو تمت الإشارة للمصدر.