فى لحظات التحوّل الكبرى، لا تصرخ البنادق وحدها فى وجه الخطر، بل يتقدّم الفن بدوره كقوة ناعمة، قادرة على ما تعجز عنه الجيوش، فالمعركة ضد الإرهاب لم تكن معركة رصاص وقنبلة فقط، ولكنها كانت فى جوهرها معركة وعى، معركة كان فيها العقل المصرى أمام تحدٍ وجودى، ولذلك لم تكن البندقية ولا المظاهرة كافيتين لحسمها، وفى هذه المساحة الرمادية التى تتداخل فيها السياسة بالدين، والتاريخ بالأسطورة، ظهر الفن كقوة ناعمة، لا تقل أهمية عن أى مؤسسة سيادية، لم يذهب الفن إلى الجبهات، لكنه خاض معركته على جبهة أخطر هى جبهة السرد. من «الاختيار» إلى «الحشاشين»، ومن أغانى الشهداء إلى مشاهد البطولة، ومن محاولات المسرح المتعثرة إلى رسائل الغناء الخجولة، تَشكّل خطابٌ جديد، لم يكن خالياً من العثرات، لكنه كان أقرب إلى ضمير اللحظة.
هذا المقال ليس مديحاً مجانياً للفن، ولا هجاءً غاضباً لتقصيره، بل هو محاولة لفهم ما جرى: كيف واجه الفن المصرى جماعةً احترفت تزييف الوعى؟ ماذا قدّم؟ وما الذى فشل فيه؟ وهل نحن أمام لحظة يجب أن تُستكمل، أم أننا نكتفى فقط بالاحتفال بذكراها، هذا ما نحاول أن نستعرضه بصدق وموضوعية، لا لنعيد كتابة ما جرى، بل لنفهم: كيف قاوم الفن فكر الإخوان.
نعم لا يمكن إنكار أن الفن قاوم، قاوم بوضوح فى بعض اللحظات، خاصة حين قدّمت الدراما أعمالاً مثل «الاختيار»، التى كانت مواجهة مباشرة مع الإرهاب، وأعمالاً أخرى وثّقت بطولات الجيش والشرطة.
لكن -وهنا الفارق- تلك الأعمال جاءت دفاعية، ردّ فعل على رصاصات غادرة، أو تفجيرات دامية، أو بطولات أذهلت الناس، فاستُدعى الفن ليسجّل، لا ليبادر، ومع ذلك نحن لا ننكر أن ملامح المواجهة بدأت تتشكّل فى «الاختيار»، تلك السلسلة التى كسرت قواعد الدراما التقليدية، ورفعت الستار عن بطولات لم تكن تعرف طريقها إلى الكاميرا.
ففى الجزء الأول، رأينا «أحمد منسى» لا كبطل خارق، بل كإنسان آمن بقضيته حتى الشهادة، وفى الجزء الثانى دخلنا دهاليز 2013، من داخل الاجتماعات المغلقة، إلى الخلايا الإرهابية، وشهدنا على تساقط القناع عن الوجوه التى طالما تاجرت بالدين.
أما الجزء الثالث، فقد كان دراما سياسية مباشرة، استعرضت ما لم يُعرض من كواليس الحكم، وسقوط الجماعة، بلغة جمعت بين الوثيقة والحبكة الدرامية.
لكن «الاختيار» -رغم أهميته- لم يكن كافياً وحده، فهو فى نهاية المطاف دراما توثيقية مُحكمة البناء، لكنها محدودة النطاق، فإلى الآن ما زلنا نفتقد أعمالاً تغوص فى وعى المجتمع وتعيد تشكيل الشخصية المصرية، كما فعلت دراما الستينات والسبعينات.
ثم جاء مسلسل «الحشاشين» كعمل استثنائى على مستوى الإنتاج والجرأة، محاولاً أن يخترق منطقة وعرة من تاريخ التطرف المسلح باسم الدين.
كان هذا المسلسل فى ظاهره يتحدث عن «حسن الصباح» وفرقة الحشاشين التى أرعبت مجتمعات ودول المسلمين فى القرن الخامس الهجرى، لكن فى جوهره، كان يُلمّح -وإن بتحفّظ- إلى ما يشبه الجماعات المعاصرة، من القاعدة إلى الإخوان، وإن لم يُسمّهم.
وقد تميز هذا العمل بصرياً بأعلى درجات العناية: ديكور ضخم، ملابس دقيقة، تصوير سينمائى يليق بفيلم عالمى، لكن هذا البذخ البصرى لم يُواكبه عمق فكرى كافٍ، فالشخصية المحورية حسن الصباح، بدت أحياناً أسطورة لا إنساناً، وغاب فى كثير من المشاهد سؤال: كيف يُصنع المتطرف؟ وكيف يُغسل دماغه؟
حيث تحوّل «الصباح» إلى شيطان ذكى، لا إلى منتج طبيعى لمجتمع مشوه وفقهٍ مأزوم.
ومع ذلك يبقى لـ«الحشاشين» فضل فتح الباب، لا غلقه، فهو أول عمل درامى مصرى يُغامر بمواجهة جذر العنف، لا مجرد نتائجه، ولعلّه كان يحتاج إلى شجاعة أكبر فى الربط المباشر بين تلك الجماعة الباطنية القديمة، وبين وجوه الإرهاب المعاصر الذين يرفعون نفس الشعار: «نُريد الخلافة ولو على الجثث».
ولأن الإخوان تسلّلوا عبر بوابة الدين، كان من المنطقى أن تكون الدراما الدينية المستنيرة هى رأس الحربة فى المواجهة الفكرية، لكن الواقع يقول إن الدراما الدينية اختفت.. أو بالأحرى، أُقصيت.
فمنذ أكثر من عقد، لم تُنتج مصر مسلسلاً دينياً جاداً يتناول جوهر الإسلام كما عُرف فى عصور الازدهار العقلى والتنوير، لا الإسلام السياسى، ولا التدين الشكلى، فأين هى المسلسلات التى تُعيد تقديم سيرة ابن رشد، وابن خلدون، وأبوالحسن الشاذلى، بل أين المسلسلات التى تشرح الفرق بين الدين والتديّن، بين الشريعة والقانون، بين الإيمان والاتجار بالدين؟ كل هذا غاب وكأن المعركة مع الإخوان أمنية فقط، لا ثقافية أيضاً.
ومع ذلك كانت هناك بشرى خير فى رمضان 2023، حيث عاد «الإمام» الشافعى إلى الشاشة لا باعتباره فقيهاً فقط، بل باعتباره إنساناً عاش بين الناس، عانى، وتعلّم، وأفتى بعقله قبل لسانه.
كان مسلسل «الإمام الشافعى» فى ظاهره وعداً بعودة الدراما الدينية المستنيرة، ومع ذلك فإن هذا المسلسل -بكل ما له وما عليه- أطلق إشارة أن الجمهور ما زال متعطشاً لرؤية الدين فى صورته العاقلة الرحيمة العادلة.
لا شك أننا نملك فى مصر ثروة فكرية من علماء الدين المتنوّرين، من محمد عبده إلى على عبدالرازق إلى عبدالحليم محمود، ولكن لماذا لم تُقدَّم هذه الشخصيات للناس، ولم تُترجم أفكارهم إلى دراما؟!.
ومع ذلك لا يمكن أن يتم ترجمة هذا التقصير إلى الظن بأننا خسرنا معركة العقل ونحن نظن أننا انتصرنا بالسلاح، ذلك أن المحتوى الفقهى للإرهاب ضعيف جداً بحيث يكفى أى جهد فنى مستنير لهزيمته فى معركة الوعى.
أما السينما المصرية فقد واجهت الإرهاب على استحياء، لكنها لم تفككه فكرياً بما يكفى، فلم نرَ حتى الآن فيلماً سينمائياً يسائل الفقه الذى يتكئ عليه الإرهابى، وتحوّلت أغلب المحاولات إلى أفلام «مطاردة»، لا «محاسبة» ثقافية.
فعلى سبيل المثال كان فيلم «الخلية» عبارة عن فيلم أكشن بوليسى يدور حول ضابط فى مكافحة الإرهاب يلاحق خلية إرهابية مسئولة عن تفجير إرهابى ضخم، وقد ركّز هذا الفيلم على البُعد الأمنى والمطاردات أكثر من التعمق فى الفكر المتطرف أو خلفياته الدينية أو النفسية.
وفيه ظهر الإرهابى كرجل شرّير تقليدى بلا طبقات فكرية مما جعل الفيلم ناجحاً تجارياً، لكنه محدود الأثر فى تفكيك بنية التطرف أو طرح أسئلة الوعى.
ومع ذلك، بقيت هذه الأعمال جُزراً ناجحة فى بحرٍ غير مستقر حيث لم تتكرّس بعد فى مصر مدرسة درامية وطنية على غرار ما شهدناه فى عصر «عبدالناصر»، حيث كان هناك وضوح فى الهدف: أن تكون الدراما أداة لخلق وعى، وبناء قِيَم، لا مجرّد حكايات متقنة الإخراج.
ورغم أن المسرح فى أوقات المعارك الوطنية والتحوّلات الكبرى يكون هو الفن الأقرب للعقل والشارع، ففى زمن «عبدالناصر» مثلاً كان المسرح يعجّ بأعمال سياسية وفكرية، من يوسف إدريس إلى سعد الدين وهبة، ومن المسرح القومى إلى الفرق المستقلة، لكن بعد ثورة يونيو 2013، ورغم اشتعال المعركة ضد الفكر المتطرف، لم يصدر عن المسرح المصرى إنتاج حقيقى يوازى اللحظة.
ولكن من ناحية موازية كان للغناء فى مواجهة الإرهاب والتطرف بعد يونيو 2013 أكبر الأثر، حيث استطاع أن يمس شرياناً حيوياً فى الوجدان المصرى، فالغناء، فى لحظات المعارك الوطنية ليس مجرد طرب أو ترفيه، بل هو أداة تعبير شعبية، وشحنة وجدانية تصوغ الوعى وتُحرّك المشاعر، فمثلاً نجد أغنية «تسلم الأيادى» قد انتشرت كالنار فى الهشيم، ورمزت للامتنان الشعبى للجيش، وأغنية «بشرة خير» لحسين الجسمى رسّخت خطاب التفاؤل وحثّ الناس على المشاركة، والأروع كانت أغنية «قالوا إيه» وهى أغنية الفرقة العسكرية التى تحوّلت إلى نشيد شعبى يمجّد الشهداء، هذه الأغانى كانت مؤثرة وجدانياً، ونجحت فى شدّ لُحمة الوطن، لكنها لم تكن أغانى «تنوير فكرى» أو «وعى دينى بديل».
وأخيراً لا يمكن أن نغض الطرف عن الجهود الفنية فى معركة المصير، لقد أدّى الفن فى مصر ما استطاع إليه سبيلاً بعد لحظة الخطر الكبرى فى 2013، تحركت الدراما نوعاً ما، وتكلمت الأغنية شيئاً فشيئاً، وارتفعت بعض الأصوات من فوق الخشبة، لكن الحقيقة التى لا ينبغى أن نغفلها أن ما قُدّم كان فى مجمله أقرب إلى رد الفعل لا الفعل المسبق، وإلى الموقف اللحظى لا المشروع الممتد.
ومع ذلك، لا يمكن تبخيس قيمة ما صُنع، خاصة فى ظل ظروف إنتاجية ضاغطة، وحرب إعلامية مفتوحة، وسوق فنى تجارى لا يرحم، لقد وقفت بعض الأعمال فى وجه الظلام، وكشفت جزءاً من زيف الخطاب المتطرف، وقدّمت نماذج وطنية من واقع الناس، لكن المعركة ما زالت طويلة، والوعى لا يُبنى بمسلسل أو اثنين، ولا بأغنية واحدة تلهب الحماسة ثم تختفى.
إن الفن، إذا أراد أن يكون شريكاً حقيقياً فى إنقاذ العقول فعليه أن يتحول من الانفعال إلى المبادرة، ومن الاستجابة اللحظية إلى المشروع الثقافى المتكامل. نحن بحاجة إلى دراما تُناقش الدين بوعى، ومسرح يُفكك التطرف بعقل، وسينما تُصوّر معركة الإنسان مع الجهل، وأغنية تُعلى من قيم الرحمة والعقل والحب. إننا لا نطلب من الفن أكثر من أن يكون هو نفسه: ضميراً للأمة، وجداراً للوعى، وشعلة لا تنطفئ فى زمن العتمة.