في إطار متابعة مرصد الأزهر لقضايا المسلمين حول العالم، برزت قضايا المسلمين في النمسا خلال الأسابيع الأخيرة لتتصدر النقاش العام، فقد شهدت البلاد سلسلة من الأحداث المتلاحقة التي تراوحت بين حوادث فردية أثارت جدلًا واسعًا، ومشروعات تشريعية تتعلق بالهوية الدينية، وخطوات مؤسسية ذات طابع أمني، وهذا التداخل بين عنف الشارع والمبادرات القانونية والخطاب السياسي يطرح أسئلة مهمة حول مستقبل التعايش في قلب أوروبا، وحول كيفية بناء ثقة متبادلة بين الدولة، ومواطنيها المسلمين.
ففي مطلع سبتمبر 2025م، تناولت صحيفة “دير ستاندرد” قضية مثيرة للانتباه عُرضت أمام محكمة إقليمية في مدينة “شاردينج”، حيث تعرضت امرأة مسلمة محجبة لاعتداء عنيف، تضمنت تفاصيل الواقعة إهانات لفظية ومحاولة إجبار الضحية على تناول لحم خنزير، إلى جانب اعتداء جسدي مباشر، فمثل هذه القضية لا تبدو مجرد جريمة عادية، بل تكشف عن خلفية معقدة من الصور النمطية والكراهية المتراكمة، وقد أشارت الجماعة الإسلامية في النمسا في تصريح نقلته صحيفة “كرونه تسايتونج”، إلى أن هذه ليست حالة فردية، بل تعكس واقعًا تعيشه الكثير من النساء المسلمات، ولكنهن يترددن في التبليغ عن الاعتداءات بدافع الخوف أو الإحباط، الأمر الذي يجعل الأرقام الرسمية للاعتداءات على المسلمين أقل بكثير من الواقع الفعلي، ولا شك أن مثل هذه الحوادث تثير القلق حول المناخ المجتمعي، ومدى قدرته على استيعاب التنوع الديني والثقافي.
وبالتوازي مع حوادث الشارع، برزت قضية تشريعية أثارت نقاشًا واسعًا، بعد أن نقلت هيئة الإذاعة والتلفزيون النمساوية (ORF) عن وزارة الأسرة والاندماج عزمها إعادة تفعيل قانون حظر ارتداء الحجاب للفتيات دون سن الـ14 في المدارس، هذا المشروع يشمل المدارس العامة والخاصة والإسلامية، ويمنح المعلمين دورًا في متابعة الالتزام مع إمكانية فرض غرامات على أولياء الأمور قد تصل إلى أكثر من 1000 يورو في حالة المخالفة المتكررة، ورغم أن المحكمة الدستورية كانت قد ألغت قانونًا مشابهًا قبل 5 أعوام، معتبرة أنه يتعارض مع مبدأ المساواة والحرية الدينية، إلا أن العودة إلى طرحه تكشف عن استمرار الجدل حول مكانة الرموز الدينية في الفضاء التعليمي.
ومن وجهة نظر وزارة الأسرة، فإن الهدف هو حماية الفتيات وضمان حيادية المؤسسات التعليمية، بحيث لا تصبح ساحة للتأثير الديني المبكر، غير أن هذا الطرح يثير تساؤلات عديدة في أوساط المجتمع المدني والديني، خاصة فيما يتعلق بحرية المعتقد وحق الأسرة في تربية أبنائها وفق قيمها، ويشير بعض المراقبين إلى أن تكليف المعلمين بمراقبة مظهر التلاميذ قد يضعف العلاقة التربوية، ويخلق جوًّا من الريبة بين المدرسة والأسر، وهو ما قد يترك أثرًا عكسيًّا على الاندماج الذي يُفترض أن يسعى إليه القانون. إن مثل هذه الإجراءات، حتى وإن قُدمت تحت شعار حماية الطفل، قد تولِّد شعورًا بالتمييز لدى بعض الفئات، وهو ما قد يعزز الانغلاق بدلًا من الانفتاح.
ويرى مرصد الأزهر أن فرض هذا النوع من القيود لا يُسهم في تعزيز الاندماج بقدر ما يعمّق مشاعر التهميش والتمييز ضد شريحة من المواطنين، ويُعد انتهاكًا صريحًا لحرية المعتقد والاختيار التي كفلتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وقد بيَّن المرصد في كثير من المرات السابقة في بياناته حول هذه القضية أن الحجاب لدى الفتيات المسلمات ليس مجرد ظاهرة سياسية كما يُحاول البعض تصويره، بل هو تعبير عن الهوية الدينية والثقافية، وأن تحويله إلى قضية قانونية وإدارية يعرِّض الأسر المسلمة لضغوط، ويزيد من حدة الاستقطاب داخل المجتمع، كما يحذر المرصد من أن إلزام المعلمين بمتابعة وملاحقة الأسر بسبب التزام بناتهن بالحجاب قد يزرع أجواء من الريبة والاضطراب في المدارس، وهو ما يتنافى مع دورها التربوي والإنساني، ولذا يدعو مرصد الأزهر إلى تبني سياسات تراعي القيم الدستورية الأوروبية القائمة على التعددية والحرية، والابتعاد عن الإجراءات التي تضيِّق على حرية الممارسات الدينية، مؤكدًا أن حماية حق الأطفال في اختيار مظهرهم الديني بما يتناسب مع معتقداتهم هو خطوة أساسية لضمان التعايش السلمي، وتعزيز الثقة المتبادلة بين مكونات المجتمع.
وفي سياق متصل، أعلنت الحكومة النمساوية عن تأسيس مرصد رسمي لمتابعة ما يُعرف بـ “الإسلام السياسي”، والفكرة تنطلق من إدراك متزايد بأهمية مواجهة الفكر المتطرف، وهو أمر تؤكد عليه مختلف المؤسسات الدولية، وهو نهج كان للأزهر الشريف السبق فيه حين أسس “مرصد الأزهر لمكافحة التطرف” منذ عام 2015م، ليكون منصة عالمية ترصد الأفكار المتشددة وتفندها بلغات متعددة .
ولكن في الوقت نفسه يحذر المرصد بشدة من خطورة اقتصار نطاق المتابعة على الجمعيات والمساجد فقط، بما قد يُعزز الصور النمطية السلبية ويضع عموم المسلمين في موضع اتهام جماعي غير منصف، ويؤكد أن التطرف ظاهرة متعددة الأوجه لا تقتصر على دين أو ثقافة بعينها، حيث إن ظاهرة العداء ضد المسلمين آخذة في التزايد بشدة سواء في المجتمع الأوروبي عامة أو النمساوي خاصة، فالتطرف ليس حكرًا على دين أو ثقافة بعينها، بل هو ظاهرة متعددة الأبعاد تشمل اتجاهات مختلفة، من بينها اليمين المتطرف الذي يُنظر إليه في أوروبا على أنه تهديد لا يقل خطورة على الديمقراطية والاستقرار، لذا فإن مواجهة التطرف بشكل فعال تستلزم معالجة أسبابه الفكرية والاجتماعية والاقتصادية على نطاق واسع، لا حصره في إطار ديني محدد، ومن ثمَّ يشدد مرصد الأزهر على أهمية أن يكون المرصد الجديد أداة علمية ومهنية محايدة، تقوم على التعاون مع مؤسسات المسلمين لا على شيطنتها، وأن تركز على معالجة الأسباب الفكرية والاجتماعية والاقتصادية المؤدية للتطرف، فالتوازن بين الحزم الأمني والعدالة المجتمعية هو السبيل الأمثل لبناء الثقة وحماية قيم المواطنة والتعايش في النمسا وأوروبا بوجه عام.
إن تجميع هذه التطورات يعكس صورة مركبة من التحديات، فالمسلمون في النمسا يواجهون من ناحية أحداثًا فردية تعكس ممارسات تمييزية أو عنيفة، ومن ناحية أخرى يترقبون تشريعات قد تؤثر بشكل مباشر على حياتهم اليومية، وفي الوقت نفسه يجدون أنفسهم موضوعًا لمبادرات أمنية تركز على مراقبة خطابهم الديني والسياسي، هذه العناصر مجتمعة تعكس وجود فجوة ثقة، وهي فجوة لا يمكن معالجتها إلا من خلال حوار متكامل يشارك فيه الجميع، ومن هذا المنطلق يؤكد مرصد الأزهر أن ضمان الحقوق والحريات الدينية والثقافية لجميع المواطنين والسياسات التي تركز على التعددية وقبول التنوع هي الأقدر على بناء مجتمع متماسك، وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى تجربة مرصد الأزهر منذ تأسيسه عام 2015م بوصفها نموذجًا عمليًّا، إذ عمل على مواجهة الفكر المتشدد عبر منصات متعددة اللغات، من خلال نشر بدائل فكرية وإنسانية معتدلة تخاطب العقول والقلوب في آن واحد.
وحدة الرصد باللغة الألمانية

