spk_0
خبير في تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي يعمل مديرًا لتصميم الأنظمة في مؤسسة حكومية بولاية فكتوريا. لكن خلف شاشة الحاسوب وجهٌ آخر له: وجهُ الفنان الذي اختار الطين والحطب والهدوء بديلًا عن لغة الكود والأرقام والمؤشرات، والعيشَ في منزل ريفي بعيدًا عن صخب المدينة؛ لا هروبًا من التكنولوجيا التي يفهمها جيدًا، بل بحثًا عن المعنى في الريف. أنا محمد الغزي.
spk_0
وهذه قصة المهندس والفنان صلاح الربيعي.
spk_1
حياتي قد تبدو وكأن فيها بعض التناقضات؛ فمن جهة أعمل في آخر ما توصّل إليه علمُ المعلومات وتصميمُ الأنظمة للمؤسسات الكبيرة، ومن جهة أخرى أعيش حياةً بسيطة. بعض الناس قد يرونها اختلافًا في الدرجة، لكنها بالنسبة إليّ توازنٌ مطلوب.
spk_0
لنبدأ من البداية: كيف كانت رحلتك إلى أستراليا؟ وما الذي كنت تبحث عنه حين وصلت؟
spk_1
غادرت العراق
spk_1
عام 1994، وبعد فترة قصيرة في الأردن ونحو سنةٍ ونصف في الإمارات، ذهبتُ إلى نيوزيلندا من خلال هجرة الكفاءات الهندسية. عشت في نيوزيلندا حتى عام 2000 تقريبًا، ثم قررت المجيء إلى أستراليا واستقررت فيها منذ ذلك الحين. كان الهدفُ العملَ في مجال تخصصي؛ فأستراليا بلدٌ أكبر من ناحية التكنولوجيا والمؤسسات.
spk_1
فالهدف هو العمل في بيئاتٍ أوسع وأكثر تأثيرًا.
spk_0
ما التحدي الأكبر الذي واجهته في سنواتك الأولى في
spk_1
أستراليا؟ نعم، التحدي الأكبر يكاد يكون تقليديًا لمعظم المهاجرين: اللغة، والإحساس بالانتماء، وإيجاد المساحة المتوازنة بين المجتمع والثقافة الأسترالية من جهة، والمجتمع والثقافة التي جئتُ منها من جهة أخرى. هذه كانت بعض الصعوبات في البداية. أمّا العمل فلم تكن هناك مشكلة بفضل الخبرة.
spk_1
كانت لديّ خبرة جيدة.
spk_0
أستاذ صلاح، حدّثنا كيف بدأت العمل في مجال التكنولوجيا، وخاصة تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي؟ ما الذي جذبك إلى هذا المجال؟
spk_1
في الحقيقة دخلتُ مجالَ تكنولوجيا المعلومات والكمبيوتر منذ زمنٍ طويل جدًا؛ في العراق تحديدًا عام 1985 تقريبًا، في وقت كانت فيه الأجهزة نادرة، ومع ذلك بدأتُ مبكرًا.
spk_1
ثم واصلتُ العمل في هذا المجال، وخصوصًا رسومَ وتصاميمَ الكمبيوتر (Computer Graphics & Design) في مؤسساتٍ بالعراق من خلال التلفزيون العراقي، وهذه أعطتني خلفية ممتازة. بعد ذلك استمررت في الأردن والإمارات في مجالات التصميم، وفي نيوزيلندا وأستراليا تحوّلتُ إلى تصميم وبناء الأنظمة.
spk_1
انتقلتُ من منصبٍ إلى آخر حتى وصلتُ إلى المنصب الحالي: مدير تصميم الأنظمة في مؤسسة حكومية. عملتُ في أكثر من مؤسسة حكومية، لكنني حاليًا مديرٌ للتصاميم والأنظمة.
spk_0
بعد هذه السنوات، ما الذي غيّر نظرتك إلى الحياة ودفعك لاختيار العيش في الريف بعيدًا عن صخب المدينة وأنت ابنُ التكنولوجيا؟
spk_1
أنا في الحقيقة أعيش في الريف أو على أطراف المدن منذ خمسةَ عشرَ عامًا، وكنت دائمًا أحب أن أوازن بين صخب العمل والمدينة وبين العيش الريفي. كان هدفي الدائم إيجادُ مكانٍ يبعد ساعةً إلى ساعةٍ ونصف عن المدينة؛ يمنحني حريةَ العمل في المدينة إذا احتجتُ، والعيشَ الريفيَّ حين أعود. أعتقد أن الإنسان، خاصةً اليوم،
spk_1
يعيش في دائرةٍ مستمرة؛ وكأن حياةَ المدينة لا تمنح طبائعَ الحياة حقَّها. لذلك ينبغي ألّا نفوّت خياراتِ وجمالَ الطبيعة والعودةَ إلى البساطة. العيشُ في الريف يحتاج جهدًا وصبرًا؛ مثل الوقت الذي نأخذه لتجفيف الحطب. عادةً نقطّع الأشجارَ الساقطة إلى قطع، وهذا يحتاج جهدًا، ثم نتركها بين الشمس والمطر لمدة سنةٍ ونصف إلى سنتين حتى تصبح صالحةً للاستعمال في المدفأة داخل البيت. كلُّ شيءٍ في الحياة يأتي بجهد ويحتاج وقتًا. الذي سهّل هذا الأمر دعمُ زوجتي الأسترالية، وهي أيضًا من الريف.
spk_0
وأنا أيضًا أفهم أن الأصول التقت: ريفٌ أستراليٌّ وعراقي.
spk_0
كيف التقيتما؟ وكيف أسهم اختلاف الخلفيات في إثراء التجربة؟
spk_1
في الحقيقة لم نرَ اختلافًا يُعطّل حياتنا، وهذا سهّل الأمور. العيشُ في الأماكن الريفية يجعلك لا تأخذ الأشياء كمسلمات، ويجعلك تفكّر خارج الصندوق؛
spk_1
من مراقبة كمية المياه التي نجمعها من المطر: هل هي كافية؟ وهل الكهرباء من الخلايا الشمسية كافية؟ وهل لدينا ما يكفي من وقود التدفئة للموسم القادم؟ مرورًا بمواسم الزراعة، وحتى حركة الأشجار والحيوانات والحشرات. العيشُ في الطبيعة يضع الإنسان في انسجامٍ دائم معها، وأيُّ اختلالٍ في هذا الانسجام يُربِكُ حياةَ الإنسان. البعض يسأل: لماذا لا تعيش في المدينة؟ بينما السؤال الأصح: لماذا لا يكون الإنسان أكثر ارتباطًا بالطبيعة من حوله؟
spk_0
خارج منزله حظيرةُ دجاجٍ تسرح بحرية، وبيضٌ طازجٌ كلَّ صباح. حياةٌ “أورغانيك”: يعتمد صلاح وزوجته الأسترالية على خيرات الطبيعة؛ التدفئةُ من الحطب،
spk_0
والمياهُ من المطر، والراحةُ من البساطة.
spk_1
الحياةُ مع الحيوانات، ومع الدواجن تحديدًا، مفيدةٌ جدًّا؛ فهناك أكثر من فائدة. أولًا: لا نُهدر الطعام؛ فلا شيء يُرمى. بقايا الطعام تذهب إلى الدواجن، وحتى بقايا اللحوم نتركها في المزرعة أو الغابة؛ فتأكلها الحيوانات.
spk_1
والدواجن تعطينا البيض، وتوفّر السماد الذي يعود إلى الأرض ويساعد على نمو النباتات؛ فهناك حركةٌ دائمةٌ في الدورة الطبيعية.
spk_0
حدثتني عن أنك امتلكتَ فرسًا وماشيةً أيضًا.
spk_1
نعم، عندما انتقلنا كان لدينا حصانان، أحدهما حصانٌ عربي.
spk_1
وكانا للاستخدام في البيت والمزرعة. ولوقتٍ قريب كان لدينا أيضًا مجموعةٌ من الخراف تساعد في السيطرة على الحشائش، وهذا بدوره يساعد على تقليل مخاطر الحرائق؛ لأننا نحتاج دائمًا لإبقاء الحشائش تحت السيطرة. ما يتبقّى لدينا إمّا نستخدمه علفًا للحيوانات أو للزراعة.
spk_1
وبصورة عامة نترك كميةً من المياه للحيوانات البرية الطبيعية كالكناغر وغيرها. على الإنسان أن يكون دائمًا في حالة انسجامٍ مع الطبيعة؛ ألّا يأخذ أكثرَ مما يحتاج.
spk_0
كيف تصف حياتك اليوم بين الطبيعة والعمل والفن؟ هناك وجهٌ آخر للمهندس صلاح:
spk_0
الفنانُ صلاح الذي يُشكّل الخزف في أعمالٍ فنية. هل هي هواية، أم طريقةٌ للتعبير عن نفسك بعيدًا عن لغة الكود؟
spk_1
قد تبدو حياتي متناقضةً للبعض؛ فمن جهة أعمل في آخر ما توصّل إليه علمُ المعلومات وتصميمُ الأنظمة للمؤسسات الكبيرة، ومن جهة أخرى أعيش حياةً بسيطة. بالنسبة إليّ هذه الحياة مثاليةٌ لي ولعائلتي؛ لدينا دائمًا حريةُ الهروب من ضجيج المدينة إلى أجواء نظيفة.
spk_1
أعتقد أنّ هذه الحياة هي الطبيعةُ الأصيلة للإنسان؛ فطبيعتُه أن يعيش في أماكنَ طبيعية، لا في إسمنتٍ متواصل.
spk_0
ماذا تمثّل لك ورشةُ الخزف؟ وما الرابط الذي تراه بين الطين الذي تُشكّله والبرمجياتِ التي تتعامل معها في عملك؟
spk_1
بالنسبة لي الفخارُ والرسمُ والخزفُ حريةٌ خالصة؛ تنسى معها الوقتَ وهمومَ الحياة، ويتركّز كلُّ انتباهك على تحويل هذا الطين إلى أشكالٍ جميلة. هذا شيءٌ عميقٌ في داخلي؛ قد يكون آتيًا من أرض العراق وحضاراتِ بابل. ورغم اختلاف طبيعة العملَين،
spk_1
فأنا أصمّم في الحالتين: في الأولى أصمّم أشكالًا فنيةً وخفية، وفي الثانية أصمّم أنظمةً رقميةً ذكيةً تحتاج إلى عملٍ إبداعي. الإبداع حاضرٌ في المجالين، وفي كليهما أعمل على شيءٍ جديد، ويحتاج العملُ فيهما إلى دقةٍ وتأنٍّ وجودة.
spk_0
تتحدث عن بابل وكأنك تقول: حين ألمس الطين أشعر أنني أقترب
spk_0
من أصل الأشياء؛ فقط أنت والمادة الأولى: الطين. ما الذي تقوله لنفسك حين تُبلّل الطين بالماء ويبدأ الدولاب بالدوران بين يديك لتشكّل الخزف؟
spk_1
كما قلتُ: يصبح الهدفُ الوحيد في تلك اللحظة كيفيّةُ تحويل الطين إلى جمال. وعندما التحقتُ بدروسِ الخزفِ والفخار في جامعة ملبورن، كان يُقال لنا: “أنتم من العراق؟ أنتم من مدينةٍ علّمت الإنسانيةَ صناعةَ الفخار منذ سبعة آلاف سنة”. وهذا قولٌ جميل يربط الماضي بالحاضر.
spk_0
هل يُكمل صلاحُ الفنانُ صلاحَ المهندس؟ ما الذي يمنحك هذا الشعور اليوم وأنت تدير قسمًا مهمًا في مجال الأنظمة والذكاء الاصطناعي في مؤسسة كبيرة، وفي الوقت نفسه تُشكّل جانبك الفني وتختار نمط العيش؟
spk_1
أرى أن الواحدَ يُكمّل الآخر. النجاحُ في العمل مرتبطٌ بجودة الحياة؛ تعمل ستَّ أو سبعَ أو ثماني ساعات في مجالٍ معقّد مثل الأنظمة والذكاء الاصطناعي، ويحتاج ذلك إلى توازنٍ مقابل: عملٍ فنيٍّ أو وقتٍ في الطبيعة. بالنسبة إليّ، كلٌّ منهما يُنعش الآخر.
spk_1
فالنجاحُ في أحدهما يدعم النجاحَ في الثاني.
spk_0
وكأنك تقول: أردتُ أن أعيش كما يفكّر الطين؛ لا على عجل، بل على وتيرة الطبيعة. لو لخّصت رحلتك بكلمةٍ واحدة، ماذا تقول اليوم؟
spk_1
أقول إن النجاح الحقيقي للإنسان هو التوازنُ والانسجام: توازنٌ بين العمل ووقت العائلة، ووقتٍ للرياضة، ووقتٍ للهواية والبيت،
spk_1
ووقتٍ للإيمان والعبادات والعلاقات الاجتماعية. إذا اختلّ واحدٌ من هذه، اختلَّ كلُّ شيء. الكلمةُ الوحيدة: “انسجام”؛ انسجامٌ بين كلِّ ذلك.
spk_0
شكرًا لك أستاذ صلاح على مشاركتنا قصتك. كان هذا المهندسُ صلاح الربيعي متحدّثًا عن رحلته إلى أستراليا، وقصته بين عالمي التكنولوجيا والفنّ واختيار نمط العيش.
END OF TRANSCRIPT

