لم تكن الأحداث الدموية التي شهدتها سوريا في ساحلها، أمرا عاديا، بل شكّلت نقطة تحول على عدة مستويات، وتحديدا على مستوى المجتمع الدولي ولدى الولايات المتحدة، حيث إن مشاهد العنف القصوى قد غيرت مزاج عدة أطراف إقليمية ودولية تجاه حكام سوريا الجدد، والسلطة الانتقالية التي يقودها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، لا سيما أن الحوادث التي راكمت نظرة سلبية في السجل الحقوقي لدمشق مرة جديدة بعد سقوط بشار الأسد، أعادت النظر في احتمالات عدم وفاء القوى الجديدة بالوعود المختلفة بشأن حماية الأقليات، والقطيعة مع ميراث العنف والاستقطاب على أساس طائفي، كما هو الحال في حقبة “الأسد” المريرة.
وعليه، تضاعفت التحديات لدى السلطة الجديدة بدمشق في ما يخص تبييض صورتها، وكذا تحقيق العدالة الانتقالية. ففي مطلع الأسبوع الماضي، بين 6 إلى 10 آذار/مارس الجاري، جرت أعمال عنف دموية، بل مجازر في الساحل السوري على أساس طائفي، حيث كان غالبيتهم من أبناء الطائفة العلوية. وراح ضحيتها قرابة الـ1400 مدني في ظروف مختلفة ومأساوية، من بينها إعدامات ميدانية علانية، وفق “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، ونحو 300 عنصر من الأمن العام، وبالطبع العدد قابل للزيادة جرّاء صعوبة الوصول إلى جميع الضحايا والإصابات المرشحة للوفاة، وفق شهادات محلية لـ”الحل نت”.
يمكن اعتبار المجازر والانتهاكات التي وقعت في الساحل السوري انعطافة جذرية، وسيحدد مسارها مدى التزام الحكام الجدد في دمشق بوعودهم، وسط إدانات دولية وأممية لمقتل عائلات علوية بأكملها على يد فصائل سورية محسوبة على الإدارة السورية الجديدة، في حين قال مراقبون وكثير من الناشطين إن هذه الفصائل في النهاية تابعة ومحسوبة على وزارة الدفاع السورية، حيث قام أحمد الشرع بحلّ جميع الفصائل، ولذلك فهو المسؤول عن تحركات هذه الفصائل.
من ثم، يُمكن القول إن الشرع يتحمل مسؤولية هذه المجازر والانتهاكات، ويجب أن يُحقق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الأعمال الدموية وتحقيق الاستقرار في البلاد، وإلا فسيواجه هو وسلطته عقبات كثيرة في كسب ثقة وشرعية الدول الخارجية.
مسار سلطة دمشق
كان من المفترض أن يحضر أحمد الشرع مؤتمر بروكسل لدعم سوريا، المقرر عقده يوم غد الاثنين، وفقا لمصدر سوري ودبلوماسيين مطلعين تحدثوا إلى “رويترز” يوم الأربعاء الماضي. إلا أن ذلك لم يحدث، حيث كشفت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية، أنيتا هيبر، في وقت سابق عن توجيه دعوة إلى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لحضور المؤتمر، والذي سيحمل عنوان “الوقوف مع سوريا: تلبية احتياجات انتقال ناجح”.
وأشارت هيبر إلى أن المؤتمر يمثل “فرصة مهمة للغاية” للتواصل مع السلطات السورية بشأن الوضع الحالي داخل البلاد، وتقييم أفضل السبل التي يمكن للاتحاد الأوروبي من خلالها تقديم الدعم.
ويبدو أن الدعوة التي كان من المفترض أن ترسل للشرع تم سحبها بسبب الأحداث الدموية على الساحل السوري، والتي أدانتها الدول الأوروبية، وطالبت الشرع بمحاسبة المسؤولين عنها ومن دون تسييس.
وفي مقابل ذلك، أصدرت وزارة الخارجية السورية بيانا يمكن وصفه بـ”المشحون” بشأن مؤتمر بروكسل، حيث أكدت أن دمشق ستحضر مؤتمر بروكسل للمانحين ضمن شروط معينة، وأن قرار المشاركة لم يحسم بعد.
وبحسب ما نقلته “الإخبارية السورية” عن وزارة الخارجية في بيانها: “قرار مشاركتنا في مؤتمر بروكسل بشأن سوريا غير محسوم، والمشاركة مرهونة بقدرته على تقديم دعم فوري وملموس للشعب السوري”.
وأردفت الخارجية السورية: “لن نشارك في المؤتمر إذا كان مسيسا بطريقة تخدم روايات محددة، وكذلك لن نشارك بأي منتدى يروج لأجندات خارجية على حساب سيادة سوريا ومصالحها الوطنية”.
لماذا ترفض دمشق المشاركة بالمؤتمر؟
مصدر دبلوماسي سوري رفض الكشف عن هويته، قال لـ“الحل نت” إن البيان الختامي لمؤتمر بروكسل يحمل إدانة للسلطات السورية بسبب ما جرى في الساحل السوري.
مصدر آخر سياسي سوري لفت لـ”الحل نت” إلى أن الوضع في سوريا بحاجة إلى تقديم “براهين عديدة لجهة تغيير التصورات عن المجموعة الحاكمة في سوريا وصلاتهم بالهجمات العنيفة والاعتداءات على الطوائف والأقليات، ومنهم المحسوبين على الأسد، حيث إن الانتقام والثأر كجزء من حالة الاستقطاب المشحون بالطائفية، سيحول دون انفتاح المجتمع الدولي وواشنطن على الشرع، وتخفيف أو إنهاء العقوبات، بما سيجعل العزلة الدبلوماسية أمرا محتوما، وانعكاساتها السلبية على كل المستويات في الداخل السوري، بداية من الاقتصادي مرورا بالسياسي والأمني وحتى الحقوقي”.
وبالتالي جاء بيان الخارجية السورية على هذا النحو، ومن المتوقع أن يشارك في مؤتمر بركسل وفد من دمشق، وليس وزير الخارجية أسعد الشيباني.
تعتبر هذه المرة الأولى التي يوجه فيها الاتحاد الأوروبي دعوة لدمشق لحضور مؤتمر المانحين، الذي عُقد على مدار 8 سنوات ماضية في العاصمة البلجيكية بروكسل، لدعم سوريا ودول المنطقة.
ولذلك؛ فإن تفويت فرصة المشاركة في المؤتمر من قبل السلطات الجديدة في دمشق يعني أن الدول الأجنبية ستتخذ عدة خطوات إلى الوراء في مسار منح الثقة والشرعية لدمشق.

مؤتمر بوكسل يهدف إلى توفير منصة لحشد الدعم الدولي لمستقبل سوريا، إذ سيركز على تلبية الاحتياجات الإنسانية والتنموية، وضمان استمرارية المساعدات للسوريين داخل البلاد وفي المجتمعات المضيفة في الأردن ولبنان وتركيا ومصر والعراق.
كما سيبحث في سبل تعبئة التمويل اللازم لإعادة الإعمار بالتعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين، بجانب أنها فرصة لتبادل وجهات النظر مع السلطات السورية الجديدة بشأن الوضع على الأرض، وأيضا لفهم كيفية تقديم أفضل دعم.
على ضوء ذلك، يُفهم أن سلطة الشرع ترغب في رفع الدول الأوروبية العقوبات، ومنحها الثقة والشرعية، وتأكيدها أنها تُمثل حجر الأساس في إعادة بناء سوريا. لا سيما بعد أن حذّرت وزارة الخارجية السورية في بيانها من تجاهل الآثار الخطيرة للعقوبات أحادية الجانب المفروضة على سوريا، مشيرةً إلى أنها لا تزال تُشكّل عائقا رئيسيا أمام تعافي البلاد، وأنها تؤثر بشكل مباشر على الظروف المعيشية للسوريين.
إلا أن ما صرّح به المصدر الدبلوماسي السوري لموقع “الحل نت” من أن بيان مؤتمر بروكسل تضمن إدانةً للسلطات في دمشق بشأن الانتهاكات التي وقعت في الساحل السوري، يؤشر إلى انزعاج سلطة الشرع من هذا المسار، وتريد النأي بنفسها عن عمليات القتل المروعة التي وقعت بالساحل. وقد ألقت باللوم على عناصر منفلتة وبسلاح غير شرعي، وشكلت لجنة للتحقيق في أعمال العنف.
الدول بانتظار خطوات الشرع
في حين دعت العديد من الدول ومنظمات حقوقية، بما في ذلك الولايات المتحدة والأمم المتحدة، إلى إنهاء جميع أعمال العنف، وإجراء تحقيقات مستقلة ونزيهة وذات مصداقية، ومحاسبة المسؤولين عنها.
المجازر والانتهاكات التي وقعت بحق أهالي الساحل السوري، ستغير حتما مسار الانتقال السوري الذي بدأ قبل نحو 3 أشهر، على الرغم من أن وجهة هذا المسار مجهولة، وغير معروف على وجه اليقين والدقة ما إذا أحمد الشرع سيقوم بانتقال حقيقي وجاد.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في بيان أصدره الخميس بمناسبة الذكرى الرابعة عشر على خروج السوريين في مظاهراتٍ سلمية للمطالبة بحقوقهم وحرياتهم، ليقابلوا بقمع وحشي من قبل نظام بشار الأسد المخلوع.
ولفت غوتيريش إلى أنه “من المثير للقلق أن يصبح هذا المستقبل المشرق الذي يستحقه السوريون وبشدة الآن على المحك. فلا شيء يُبرر قتل المدنيين كما أفادت التقارير الواردة خلال الأيام الماضية”، مطالبا بإجراء تحقيقات مستقلة ونزيهة.
وبيّن غوتيريش أنه دعا السلطات السورية بشكلٍ متكرر إلى الالتزام “ببناء سوريا جديدة لجميع السوريين تستند إلى أسس جامعة وذات مصداقية”.
وقال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، مؤخرا: “تؤكد الولايات المتحدة مجددا دعمها لانتقال سياسي يرسخ حكما غير طائفي وذا مصداقية، باعتباره أفضل سبيل لتجنب المزيد من الصراعات”.

ولفت روبيو إلى أن الولايات المتحدة ستواصل “متابعة القرارات التي تتخذها السلطات المؤقتة مع الإشارة إلى قلقنا إزاء أعمال العنف الفتاكة التي استهدفت الأقليات مؤخرا”، مطالبا في وقت سابق محاسبة مرتكبي المجازر ضد الأقليات في سوريا، وقال في بيان نشرته الخارجية الأميركية، إن “الولايات المتحدة تدين الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين، بما في ذلك الجهاديون الأجانب، الذين قتلوا الناس في غرب سوريا في الأيام الأخيرة”.
وفي هذا الصدد حذر الباحث في “معهد واشنطن” آرون زيلن من “انتهاء شهر العسل الانتقالي في سوريا بعد المجازر والتضليل الذي تمارسه السلطة الانتقالية حول المجازر ضد المواطنين العلويين”.
وأردف زيلن، وفق قناة “الحرة”: “إن سلوك لجنة تقصي الحقائق في سوريا سوف يؤدي إما إلى بناء شرعية الحكومة الجديدة أو تدميرها، وكذلك احتمالات انتقال مستقر للسلطة”.
وهذا ما يحتم على واشنطن بعض السياسات تجاه الشرع وفريقه: “ربما يكون من الضروري تأجيل رفع العقوبات الأميركية إلى حين التحقق بشكل ملموس من التقدم في تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي في سوريا”.
لذا يمكن القول، إن المجازر والانتهاكات التي وقعت بحق أهالي الساحل السوري، ستغير حتما مسار الانتقال السوري الذي بدأ منذ تولي أحمد الشرع دفة الحكم بدمشق قبل نحو 3 أشهر، على الرغم من أن وجهة هذا المسار مجهولة، وغير معروف على وجه اليقين والدقة ما إذا الشرع سيقوم بانتقال حقيقي وجاد، خاصة أن أحداث الساحل عمقت الشروخ بين فئات المكونات السورية وأظهرت عجز الشرع في حماية مواطنيها، وبددت كل الجهود التي بذلتها الدبلوماسية السورية الجديدة خلال الفترة الفائتة، بأنها تقود دولة وليس فصيل عسكري.
لذا فإن الشرع أمام اختبار حقيقي بخصوص أحداث الساحل واللجنة التي شكلتها لتحقيق التقصي وتحقيق العدالة. هذا فضلا عن أن الشرع اليوم مطلوب منه تحقيق مشاركة الجميع في العملية السياسية، أي تشكيل حكومة جامعة وشاملة بعيدا عن الإقصاء والتهميش لأي مكون سوري، وليس كما ورد في الدستور الذي وقعه قبل أيام قليلة ومنحه استحقاقات عديدة تبدو وكأنها فوق دستورية وحصنه من المسائلة وكذا وزراء حكومته.
شروط الدول الغربية واضحة ومباشرة ولا سيما واشنطن، وهي متمثلة في مشاركة جميع المكونات بالحكم وحماية الأقليات وحقوق المرأة، فإذا كان هذا صعب التحقيق على الشرع وسلطته، فإن العقوبات الأوروبية لن ترفع كاملة، ولن تغير واشنطن من موقفها السلبي والمتحفظ تجاهه من حيث استمرار العقوبات الأميركية، وبالتالي الوضع في سوريا سيبقى على ما هو عليه، معقد وفوضوي وغير آمن لا سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا.