18 أيار 2025
الزيارات: 27
في رحاب سوق الخميس الأسبوعي بصنعاء، حيث تتلاقى أصوات الباعة وحركة الحياة اليومية، نُسجت في السابع عشر من ذي القعدة 1446هـ، الموافق الخامس عشر من مايو 2025م، قصةٌ ميلادٌ لمبادرةٍ تُبشر بفجرٍ جديد.
هنا، في قلب العاصمة التي تتحدى الصعاب، أطلقت مؤسسة بنيان التنموية، بالتعاون مع ثلةٍ من المتطوعين الأوفياء والجهات المعنية، شرارة “التنموي الصغير”. لم تكن هذه المبادرة مجرد نشاطٍ صيفيٍ تقليدي، بل كانت استثماراً في أغلى ما نملك: أجيال المستقبل، مستهدفةً “فتية ورائدات التنمية” من طلاب المراكز الصيفية، لدمجهم مبكراً في شرايين التنمية المجتمعية والاقتصادية، وزرع قيمة الاكتفاء الذاتي في نفوسهم الغضة لتنمو معهم وتُصبح جزءاً من هويتهم.
إدارة التحقيقات
مثلت المبادرة ورشة عملٍ حية، وتجربةٌ تعليميةٌ وتطبيقيةٌ مُتكاملة، صُممت بعنايةٍ فائقة لإشراك الأطفال في دورة الحياة الاقتصادية بكل تفاصيلها. في مساحاتٍ تسويقيةٍ خاصةٍ خصصت لهم داخل السوق النابض بالحياة، وُهبت الفرصة لقرابة 45 طفلاً، بعضهم حمل منتجاتٍ أبدعتها أناملهم الصغيرة، وآخرون كانوا سفراء لأسرهم المنتجة، ليخوضوا غمار تجربة التسويق والبيع المباشر. هنا، على مرأى ومسمع من الجميع، عُرضت منتجاتٌ محليةٌ متنوعةٌ تحكي قصة الأرض والإنسان: من دفء المعجنات والحلوى المنزلية، إلى عبق التوابل المحلية، مروراً بجمال الإكسسوارات والملابس المطرزة، وبريق العقيق اليماني الأصيل، وحتى المنتجات الطبيعية التي تحمل في طياتها الخير والنماء من الأرض التي وصفها الرب الغفور بـ”البلدة الطيبة..
حينما يتحول العرق إلى عائد.. والانتماء إلى فعل
في هذا الفضاء الحيوي، لم تكن العملية مجرد تبادلٍ تجاريٍ بسيط، بل كانت درساً عملياً بليغاً في الاقتصاد وقيمة العمل. عندما رأى الأطفال كيف يتحول سعيهم في التسويق، وشرحهم الواثق عن المنتج، إلى عملية بيعٍ ناجحة، أدركوا باللمس المباشر، وبفرحةٍ لا تُوصف، العلاقة الوثيقة بين الجهد المبذول والمثابرة والعائد المحقق. لم يكن العائد مادياً فحسب، بل كان شعوراً عميقاً بالإنجاز والتقدير، يُعد لبنةً أساسيةً في بناء جيلٍ واعٍ بقيمة العمل والإنتاجية، جيلٌ يعلم أن النجاح يُصنع بالأيدي والعزيمة.
كما أن التفاعل المباشر مع منتجاتٍ مختلفة، تتفاوت في أنواعها وأسعارها، كان الشرارة الأولى لتشكيل وعيٍ اقتصاديٍ مبكرٍ لديهم. بدأوا يلمسون مفاهيم بسيطةٍ ومعقدةٍ في آنٍ واحد، مثل قيمة السلع، أهمية الجودة في كسب ثقة المستهلك، وآليات العرض والطلب التي تُحرك السوق وتُحدد مساراته.
لكن الأثر تجاوز الجانب الاقتصادي البحت ليغوص في أعماق الهوية والانتماء الوطني. في مشهدٍ يُلهم الكبار قبل الصغار، عبر الأطفال عن التزامهم الراسخ بدعم المنتج المحلي، مؤكدين بكل ثقةٍ على مقاطعة المنتجات الأجنبية، وتحديداً (الأمريكية والإسرائيلية)، لم تعد مجرد شعاراتٍ جوفاء، بل قناعةٌ راسخةٌ تولدت من التجربة، تعكس وعياً متقدماً يفوق أعمارهم بقضايا اقتصاديةٍ وسياسيةٍ أوسع مرتبطة بالإنتاج والاستهلاك الوطني، وتُؤكد على قدرة المبادرة على غرس قيم الانتماء الوطني ودعم الاقتصاد المحلي كجزءٍ لا يتجزأ من المسؤولية المجتمعية.. وفي لفتةٍ إنسانيةٍ عميقةٍ تُجسد أسمى معاني التكافل، غرست المشاركة في تسويق منتجات الأسر المنتجة لدى الأطفال شعوراً قوياً بالمسؤولية المباشرة تجاه دعم جهود آبائهم وأمهاتهم. المشاركة مثلت تعزيزاً للروابط الأسرية وقيم التعاون والتكافل داخل الأسرة والمجتمع الأوسع. وببساطةٍ تُختزل فيها حكمةٌ عميقةٌ تُلامس القلوب، قالت الطفلة علياء: “اليوم معنا منتجات، وأصلاً أنا من أساعد ماما”، لترسم بذلك أبلغ صورةٍ للبعد الاجتماعي والإنساني للمبادرة، وأن التنمية تبدأ من داخل البيت.
مسارٌ منهجيٌ يرسم خريطة المستقبل من الوعي إلى التطبيق
المبادرة لم تأت وليدة الصدفة أو العشوائية، وإنما نتاج مسارٍ منهجيٍ مُتقن، بُني على رؤيةٍ واضحة ومرحلتين أساسيتين، صُممتا بعنايةٍ فائقة لضمان تحقيق أهدافها الطموحة في بناء جيلٍ واعٍ ومنتجٍ من القاعدة إلى القمة. هاتان المرحلتان، “الوعي” و”التطبيق العملي”، شكلتا العمود الفقري لهذه الرحلة التحولية، حيث انتقل الأطفال من مرحلة التلقي المعرفي إلى مرحلة المشاركة الفاعلة والمنتجة.
المرحلة الأولى: غرس البذرة- الوعي (أسبوعان من التأسيس المعرفي)
كانت الأسبوعان الأولان بمثابة الفترة الزمنية التي تُزرَع فيها البذرة في تربة العقول النيرة، مرحلةٌ لم تكن مجرد تلقينٍ للمعلومات، بل عمليةُ تأسيسٍ معرفيٍ ونفسيٍ مُكثف، هدفت إلى بناء فهمٍ عميقٍ ومستدام لدى الأطفال حول مفاهيم محورية كالتنمية، والاكتفاء الذاتي، والأهمية القصوى للإنتاج المحلي في بناء صمود المجتمع وقدرته على تجاوز التحديات.
تضمنت هذه المرحلة جهوداً جبارة ومنظمة، بدأت باختيارٍ دقيقٍ للأطفال المشاركين لضمان مشاركةٍ فاعلة وتمثيلٍ متنوعٍ يعكس نسيج المجتمع. ثم انتقلت إلى إعداد مواد توعويةٍ مبتكرةٍ وجذابة، تجاوزت الأساليب التقليدية لتقدم صوراً تحكي قصص النجاح، وفيديوهات تُبصر بالواقع، وأنشطةً تفاعليةً صُممت خصيصاً لتُلامس عقول وقلوب الأطفال وتُناسب أعمارهم ومستوى وعيهم. الهدف كان تبسيط المفاهيم المعقدة وتحويلها إلى رسائل مؤثرة ترسخ في الأذهان وتُحفز على العمل.
لم تكتفِ المبادرة بإعداد المحتوى، بل استثمرت في العنصر البشري ككنزٍ لا يُقدر بثمن. تم تدريب كوكبةٍ من المتطوعات بعنايةٍ ليصبحن “مرشدات تربويات”، يحملن على عاتقهن رسالة المبادرة إلى المدارس المستهدفة عبر نزولاتٍ ميدانيةٍ مُنظمة. لقد لعبت هؤلاء المرشدات دوراً محورياً في بناء جسورٍ من الفهم والتحفيز، مستخدماتٍ أساليب تربويةٍ فعالة لضمان وصول الرسالة وتحفيز الأطفال على رؤية دورهم المستقبلي كأفرادٍ منتجين ومساهمين فاعلين في مجتمعهم ووطنهم.
المرحلة الثانية: قطف الثمار- التطبيق العملي (يومان من التجربة الحية)
بعد أن نضج الوعي واستعدت الأذهان لاستقبال التجربة، حان موعد الترجمة العملية للمفاهيم النظرية إلى واقعٍ ملموسٍ وحركةٍ دؤوبة. جاءت المرحلة الثانية لتقفز بالمفاهيم النظرية من حيز الفكر إلى أرض الواقع الملموس. امتدت هذه المرحلة ليومين حيويين في قلب سوق الخميس، حيث تحول الوعي المكتسب إلى طاقةٍ منتجة ومشاركةٍ فاعلة رسمت ملامح المستقبل بأيدٍ صغيرة ولكنها تحمل أحلاماً كبيرة.
كانت هذه المرحلة هي ذروة التجربة، حيث تجلى الجانب التطبيقي المباشر في بيئة السوق الحقيقية بكل تحدياتها وفرصها. تم التنسيق المُسبق والدقيق مع المراكز الصيفية لضمان تنظيم زيارة الأطفال ومشاركتهم الفعلية والفاعلة في فعاليات السوق. ولإضفاء طابعٍ خاصٍ على مشاركتهم، تم تجهيز ركنٍ تسويقيٍ مُخصصٍ لهم داخل السوق. لم يكن هذا الركن مجرد مساحة عرضٍ عادية، بل كان مسرحاً صُمم بعناية ليكون جاذباً ومنظماً، ليصبح المنصة التي يعرض فيها “التنمويون الصغار” إبداعاتهم ومنتجات أسرهم بفخر وثقةٍ تُبهر الناظرين.
في هذا الركن النابض بالحياة، مارس الأطفال عملياً مهارات التسويق الأساسية التي تعلموا عنها نظرياً. تفاعلوا مع الزبائن بلباقةٍ وثقةٍ، شرحوا عن المنتجات بحماسٍ وصدقٍ، وعاشوا تجربة البيع والشراء بكل تفاصيلها الدقيقة والمُلهمة. كانت هذه التجربة الحية حاسمة في ترسيخ المفاهيم لديهم، وبناء ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على الإنجاز، وإدراكهم المباشر لقيمة العمل والإنتاج وأن الأيدي المنتجة هي التي تصنع الفرق وتُغير الواقع.
لم تغفل المبادرة عن أهمية التاريخ والذاكرة، وأن القصص الملهمة يجب أن تُروى. فقد تم توثيق التجربة بكل تفاصيلها، ليس فقط لأغراضٍ إعلاميةٍ وإبرازٍ للنجاح الذي تحقق، بل لتكون “قصة نجاح” تُروى وتُعاد، لِتُلهم الأطفال الآخرين في المجتمع، وتتحول إلى نموذجٍ عمليٍ يمكن تكراره وتعميمه في أسواقٍ ومديرياتٍ أخرى، لتتسع دائرة الوعي والإنتاج وتعم الفائدة.
“فتية ورائدات التنمية”.. أيادٍ صغيرة تبني مستقبلاً كبيراً بعزيمةٌ لا تلين
كانت اللحظة الفارقة حقاً عندما وقف هؤلاء الصغار، الذين كانوا بالأمس مجرد متلقين، خلف طاولات العرض، يواجهون الجمهور بابتسامةٍ وثقةٍ لم تكن لديهم من قبل. هنا، لم يعودوا مجرد أطفالٍ حضروا نشاطاً صيفياً، بل تحولوا فعلاً إلى “فتية ورائدات التنمية”. لم يعودوا مستهلكين سلبيين يتلقون، بل أصبحوا مشاركين فاعلين في دورة الإنتاج والتسويق، جزءاً لا يتجزأ من الحراك الاقتصادي المجتمعي الذي يُبنى بسواعد أبنائه. من خلال عرض وبيع المنتجات، اكتسبوا فهماً عملياً مباشراً لكيفية وصول المنتج من المصنع (أو المطبخ المنزلي) إلى المستهلك، مما عزز تقديرهم للعملية الإنتاجية برمتها ولقيمة الجهد المبذول في كل مرحلة من مراحلها.
لقد اكتسب هؤلاء الصغار مهاراتٍ حيويةٍ لا تُقدر بثمنٍ في بيئةٍ عمليةٍ حقيقية؛ تعلموا كيف يعرضون المنتج بشكلٍ جذابٍ وملفتٍ للانتباه، وكيف يتفاعلون مع الزبائن بلباقةٍ واحترافيةٍ بسيطةٍ تُثير الإعجاب، وكيف يشرحون عن مميزات المنتج وقيمته، بل وشاركوا حتى في تحديد الأسعار (بمساعدة وتوجيهٍ من المشرفين والأسر). هذه المهارات العملية، التي قد تبدو بسيطة في ظاهرها، هي في حقيقتها أدواتٌ قويةٌ تُعد بذوراً لمستقبلٍ اقتصاديٍ واعدٍ لهم ولأسرهم ولمجتمعهم ككل.
الأهم من ذلك، أن هذه التجربة صقلت شخصياتهم ونمت فيهم روح المبادرة والثقة بالنفس بشكلٍ كبيرٍ وملحوظ. النجاح في إتمام عملية بيع، أو حتى مجرد التفاعل الإيجابي مع الزبائن وتلقي كلمات الإعجاب بالمنتج أو بطريقة العرض، ساهم بشكلٍ كبيرٍ في بناء تقدير الطفل لذاته وقدرته على الإنجاز والنجاح في مختلف مجالات الحياة. إن تحمل مسؤولية عرض المنتج والترويج له يغرس فيهم روح المبادرة وعدم التردد في خوض التجارب الجديدة والتعلم من التحديات والاخفاقات التي قد تواجههم في مسيرتهم. وعندما رأوا نتيجة جهدهم في التسويق تتحول إلى عملية بيع حقيقية، أدركوا العلاقة المباشرة بين العمل الجاد والمثابرة والعائد، وهو فهم مبكر لقيمة العمل يُعد أساساً متيناً لبناء جيل منتج ومسؤول لا يمد يده للآخرين، بل يعتمد على نفسه ويبني مستقبله بسواعده.
لم يقتصر التأثير على الجانب الاقتصادي البحت؛ فقد غرس التعامل مع المنتجات المتنوعة وأسعارها وعياً اقتصادياً مبكراً لديهم، يُمكنهم من فهم آليات السوق بشكلٍ أفضل في المستقبل. كما عززت المبادرة قيم الولاء للمنتج الوطني والوعي بأهمية دعم الاقتصاد المحلي كجزءٍ من صمود المجتمع وقوته. وفي شهاداتٍ مؤثرة وعميقة، أكد بعض الأطفال المشاركين التزامهم الراسخ بمقاطعة المنتجات الأجنبية، في وعي يتجاوز الجانب الاقتصادي ليشمل قضايا مجتمعية وسياسية أوسع مرتبطة بالسيادة والكرامة الوطنية. كما أن مساعدة أسرهم في تسويق منتجاتهم عززت شعورهم العميق بالمسؤولية تجاه الأسرة وقيم التعاون والتكاتف داخلها، ليرسموا لوحةً جميلةً للتكافل المجتمعي تبدأ من داخل البيت وتمتد لتشمل المجتمع بأسره.
شهاداتٌ تُلخص الأثر.. ورؤيةٌ تستشرف المستقبل المشرق
عكست شهادات المشاركين والقائمين على المبادرة عمق تأثيرها والتحول النوعي الذي أحدثته في نفوس الأطفال والمجتمع المحيط. وصف نزار الأهدل، أحد المتطوعين الذين كانوا جزءاً من هذه التجربة الملهمة، المبادرة بأنها “نموذجًا حقيقيًا للتنمية المستدامة”، مؤكداً أن الأطفال لم يعودوا مجرد متلقين، بل أصبحوا شركاء فاعلين في دعم أسرهم، وأن السوق نفسه يعكس تكاملاً بين جهود التنمية الريفية والحضرية، ليُصبح نقطة التقاءٍ بين المنتج في الريف والمستهلك في الحضر.
من جانبها، أوضحت يسرى المطاع، منسقة سوق الخميس، أن البرنامج نجح بامتياز في غرس مفهوم الاكتفاء الذاتي لدى الأطفال من خلال تجارب واقعية وملموسة، وعزز روح المبادرة والمشاركة المجتمعية لديهم بشكلٍ لافت، مما يهيئهم ليكونوا فاعلين ومساهمين حقيقيين في المستقبل الاقتصادي لبلدهم، قادرين على تحمل المسؤولية والمساهمة في البناء.
ربط فؤاد الأشول، من اللجنة الفنية للمدارس الصيفية، المبادرة بالتوجهات الوطنية الكبرى لبناء جيل واعٍ ومُنتج، جيلٌ يعي قيمة العمل والإنتاج، مؤكداً أن هذا الجيل، الذي يُصقل وعيه مبكراً من خلال مثل هذه المبادرات، سيكون قادراً على تحقيق الاكتفاء الذاتي المنشود، ومقارناً وعيهم وإرادتهم الصلبة بالجيل الذي أبدع في المجال العسكري وبرهن على قدرته على الصمود والإنجاز في أصعب الظروف. وعبر محمد العرومة، منسق المدارس الصيفية، عن إعجابه الشديد بإبداع الأسر المنتجة، وبالجهود الكبيرة التي تبذلها مؤسسة بنيان في تحويل الإنسان اليمني من مجرد مستهلكٍ يعتمد على الغير إلى مُنتجٍ فاعلٍ يخدم مجتمعه ووطنه بكل فخرٍ واعتزاز.
أما الأطفال أنفسهم، فكانت كلماتهم هي الأكثر صدقاً وتأثيراً وعمقاً، بعيونٍ تلمع بالفخر وحماسٍ لا يخبو، تحدثوا عن تجربتهم الفريدة، وعرضوا منتجاتهم المتنوعة بطلاقةٍ وثقةٍ تُبهر الحضور، مؤكدين التزامهم الراسخ بمقاطعة المنتجات الأجنبية ودعم الإنتاج الوطني كواجبٍ وطنيٍ وشعورٍ بالمسؤولية تجاه وطنهم، كانت كلماتهم بسيطة في تركيبها، لكنها تحمل ثقلاً كبيراً وعمقاً يُذهل الكبار، فهي تعكس وعياً مبكراً بمسؤوليتهم تجاه وطنهم ومجتمعهم، ورغبةً صادقةً في المساهمة الفاعلة في بنائه وازدهاره.
يقول أحد الأطفال المشاركين بفخر وهو يشير إلى منتجاته المصنوعة محلياً: “هذا مشروعي، سمسم بلدي مع تمر بلدي ومكسرات بلدية، كرات الطاقة”، ليختصر بذلك قصة جهد وإبداعٍ صغيرٍ ولكنه عظيم في معناه وتأثيره. بينما تشير طفلة أخرى اسمها علياء بابتسامةٍ واثقةٍ تُشع أملاً: “بالأمس أساعد أسرتي في إنتاج المنتج واليوم أسوق في سوق الخميس”، هذا الانخراط المباشر في كافة مراحل العملية الإنتاجية والتسويقية يمنحهم فهماً عملياً وملموساً لكيفية وصول المنتج من المصنع (أو المطبخ المنزلي) إلى المستهلك النهائي، مما يعزز تقديرهم للعملية الإنتاجية برمتها ولقيمة الجهد المبذول في كل خطوة، ويدركوا أن النجاح يأتي من العمل الدؤوب.
آثار تتجاوز الأرقام.. قصص نجاح وإلهام تتجسد في الواقع
حققت مبادرة “التنموي الصغير” آثاراً إيجابيةً تجاوزت مجرد الأهداف المحددة لتخلق موجةً من الأثر الإيجابي في المجتمع. لقد خلقت بيئةً تعليميةً وتطبيقيةً فريدة جمعت بين النظرية والممارسة في قالبٍ عمليٍ حيويٍ ومُلهم. شهدت أجنحة الأطفال في السوق نشاطاً ملحوظاً وحركة بيعٍ وشراءٍ نشطةٍ لم تكن متوقعة، مما يدل بوضوحٍ على فعالية مشاركتهم وقدرتهم الفطرية على التفاعل مع آليات السوق بفاعليةٍ وكفاءةٍ تُبشر بمستقبلٍ واعد.
الأهم من ذلك، أنها أبرزت دور الأطفال كفاعلين حقيقيين في مسار التنمية، وسلطت الضوء بقوةٍ على قدرتهم الكامنة على المساهمة بشكلٍ ملموسٍ ومؤثر في التنمية الاقتصادية والمجتمعية، مؤكدةً بما لا يدع مجالاً للشك أن إشراك كافة فئات المجتمع، بما في ذلك المرأة والطفل، هو ركيزةٌ أساسيةٌ وجوهرية لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة التي ننشدها جميعاً.
ساهمت المبادرة بفاعلية في تعزيز قيمٍ وطنيةٍ واقتصاديةٍ مهمةٍ كالاكتفاء الذاتي ودعم المنتج المحلي كخيارٍ استراتيجيٍ لا غنى عنه في بناء اقتصادٍ قويٍ ومُستقل. والأروع من ذلك، أنها قدمت تجربة الأطفال المشاركين كنموذجٍ ملهمٍ ومحفزٍ لباقي الأطفال في المجتمع، تُشجعهم وتحفزهم على الانخراط في مسار التنمية ورسم مستقبلهم بأيديهم، ليكونوا جزءاً فاعلاً من الحراك التنموي.
وأخيراً، أكدت المبادرة الرؤية التنموية العميقة لسوق الخميس، مبرزةً أنه ليس مجرد مكانٍ للبيع والشراء العادي، بل هو مشروعٌ تنمويٌ متكاملٌ يهدف إلى تنمية قدرات الأسر وتحويل أعمالها الصغيرة إلى مشاريع أكبر وأكثر استدامة وقدرة على النمو والتطور والمساهمة في الاقتصاد الوطني.
خلاصة وتطلع نحو غدٍ يصنعه الصغار بعزيمة الكبار
في الختام، لا يمكن النظر إلى مبادرة “التنموي الصغير” على أنها مجرد فعاليةٍ عابرةٍ انتهت بانتهاء أيام السوق، بل هي نواةٌ حقيقيةٌ لموجةٍ اقتصاديةٍ مجتمعيةٍ ناشئةٍ، ترتكز على فكرة الاكتفاء الذاتي كفلسفة حياة، وتفعيل الطاقات المحلية الكامنة كقوةٍ لا تُقهر في مواجهة التحديات، إنها نموذجٌ يُحتذى به في بناء وعي الأطفال بدورهم التنموي والاقتصادي، وتحفيزهم للمساهمة الفاعلة في الاقتصاد المحلي من خلال منحهم فرصةً عمليةً فريدة لتسويق المنتجات وعيش التجربة بكل تفاصيلها. هذا النهج التطبيقي يساهم بفاعليةٍ قصوى في بناء جيلٍ واعٍ بمسؤوليته تجاه وطنه ومجتمعه، مُتسلحٍ بالمهارات اللازمة، وقادرٍ على تحقيق الاكتفاء الذاتي ودعم الاقتصاد الوطني بقوةٍ في المستقبل.
الأمل معقودٌ على ألا تتوقف هذه الرحلة الملهمة عند هذا الحد. يطمح القائمون على المبادرة ويسعون جاهدين لتعميم التجربة وتوسيع نطاقها لتشمل أسواقاً ومجالات أخرى وفي مختلف المحافظات. إنها خطوةٌ استراتيجيةٌ بالغة الأهمية لتوسيع دائرة الوعي المجتمعي بقيمة الإنتاج المحلي، وتوسيع قاعدة الأطفال المشاركين ليصبحوا حقاً رواد المستقبل في التنمية الوطنية الشاملة، وليس مجرد مستهلكين سلبيين يعتمدون على الغير. إن تكرار وتوسيع نطاق هذه المبادرة سيسهم في بناء أساسٍ اقتصاديٍ مجتمعيٍ قويٍ ومستدامٍ، يعتمد على الطاقات المحلية المتجددة ويغرس قيم العمل والمسؤولية في الأجيال الناشئة، مما يمهد الطريق لمستقبلٍ اقتصاديٍ أكثر استدامةً وازدهاراً، مستقبلٍ يصنعه أبناء اليمن بأنفسهم، بأيديهم الصغيرة التي تحمل أحلاماً كبيرة وعزيمة لا تنكسر.