على ضفاف النيل وفى شرفة منزلها المطلة على جمال هذا البلد، اكتشفت جمال عقلها وبساطة تعاملها وانفتاحها على الناس، مجازاً يمكن أن نقول إنها «ثقّفت مشاعرها» لتحب بقوانينها الخاصة بتروٍ ولكن بلهفة على اكتشاف البشر.. وكان هذا الحب الذى جمعنا.. إنها الفنانة القديرة «سميحة أيوب» التى أُكن لها فى قلبى وعقلى مكانة خاصة، وكنت قد التقيتها لأول مرة فى تحقيق صحفى عن المسرح القومى، ليس لأنها «سيدة المسرح العربى» فحسب بل لأنها «امرأة حديدية» قهرت جميع الظروف التى كان يمكن أن تكسر أى امرأة (وفاة زوجها الكاتب الكبير سعد الدين وهبة وابنها كذلك).. لكنها ظلت صلبة متماسكة والأهم قادرة على العطاء.
قبل عامين تعرضت لحملة ممنهجة من كارهى «القوى الناعمة» لمصر والمتآمرين على العقل المصرى، وذلك عقب إضافة صورتها ومعلومات عنها فى منهج الصف السادس الابتدائى فى كتاب المهارات والأنشطة ضمن نشاط المسرح!!. كان المفروض أن يحتفى المجتمع بهذه اللفتة الحضارية، ويشجع وزارة التربية والتعليم على إلقاء الضوء على نجوم الفن والموسيقى والفن التشكيلى، فهؤلاء جزء أصيل فى ذاكرة مصر سواء بتسجيل المراحل التاريخية المختلفة بتحولاتها السياسية والاجتماعية والثقافية أو بالتأثير فى المجتمع المصرى ذاته.
ورغم الجدل المجتمعى وقتها قالت سيدة المسرح العربى إنها سعيدة بتلك اللفتة الجميلة من الدولة، التى تعكس التحضر والرقى فى التفكير واتخاذ القرار، وتعتبرها تتويجاً لرحلة عطائها ومشوارها الفنى والمسرحى، موضحة أن ما حدث يُعد تقديراً من الدولة للفن والفنانين واعترافاً بدورهم فى إثراء الوجدان المصرى وزيادة الوعى ونشر الثقافة ولا يقلون عن العلماء فى شىء.
يجب أن ننظر إلى القوى الناعمة المصرية والفن باعتبارها أدوات «صناعة» ومصدراً مهماً للدخل القومى، ونتذكر الطائرات التى كانت تأتى لمصر لمشاهدة عرض مسرحى أو حضور حفل موسيقى. لقد كرمت مصر عدداً لا بأس به من الفنانين والإعلاميين وجلسوا يوماً ما تحت قبة البرلمان بغرفتيه مجلس النواب «الشعب سابقاً»، أو الشيوخ «الشورى سابقاً» (محمود المليجى، الموسيقار محمد عبدالوهاب، مديحة يسرى وغيرهم).. وربما كانت مصر من أوائل الدول التى خصصت عيداً للفن.
فى نفس العام وعقب الفقرة الفنية التى قُدمت خلال الاحتفالية التى أُقيمت بمقر أكاديمية الشرطة بالقاهرة الجديدة، احتفالاً بعيد الشرطة.. خاطبت سميحة أيوب الرئيس من فوق خشبة المسرح قائلة: «كلنا فداء لمصر يا ريس.. أنا كان عندى أمنية إنى أقابلك وجهاً لوجه»، ورد عليها الرئيس: «أنا عندى أمنية إنى أسلم عليكِ».وتوجّه الرئيس إلى «أيوب» لمصافحتها، وقالت له: (شكراً يا ريس.. يا عزيز مصر.. كلنا بنحبك شعبك بيحبك يا ريس وشكراً على الأمن والأمان اللى إحنا عايشين فيه.. أشكرك جداً يا ريس.. الشعب كله حاسس بكل الإنجازات).. وحرص الرئيس «السيسى» على تقبيل رأس سيدة المسرح العربى: (إنها قبلة على جبين الفن المصرى).. هذا هو الوصف الحقيقى للمشهد.. وأعتقد أنها قدرت هذا التكريم من رأس الدولة لترحل بعدها بعدة سنوات «معزّزة مكرمة» مرفوعة الرأس فخورة بتاريخها.
وربما لا يعرف كثر أيضاً أن سميحة أيوب مارست الإخراج المسرحى وقدمت عملين من إخراجها.. ولها 170 مسرحية ونحو 43 فيلماً سينمائياً و100 مسلسل تليفزيونى وثمانية مسلسلات إذاعية، إنه تاريخ طويل من العطاء لم يحققه سوى سميحة أيوب.
وبرزت بأدوارها فى عروض مسرحية شهيرة ظلت راسخة فى الذاكرة الثقافية، إلى جانب مساهمتها فى الدراما التليفزيونية. وتميزت بصوتها القوى وحضورها المسرحى اللافت، ما جعلها من أبرز رموز الأداء الدرامى منذ منتصف القرن العشرين.
وقد عملت مديرة لـ«المسرح الحديث» و«المسرح القومى»، ولُقّبت بـ«سيدة المسرح العربى». ووصفها المفكر الفرنسى جان بول سارتر بـ«إليكترا المصرية» وعندما شاهدها فى مسرحيته «الذباب» التى قدمتها على المسرح القومى فى القاهرة صعد إلى المسرح ومعه سيمون دى بفوار، وقبّلها قائلاً لها «أخيراً وجدت إليكترا فى القاهرة».
سميحة أيوب هى إحدى أيقونات الفن العربى ورمز من رموزه الأصيلة الخالدة، أحبت خشبة المسرح فمنحها المسرح كل البريق والتوهج والخلود.. أخلصت لمصر وأعطتها عمرها فأحبها كل المصريين.. أعطت عمرها للفن فمنحها «الخلود».. الأسطورة لا ترحل من ذاكرتنا فهى تحتل الجزء الأكبر فى ذاكرة الفن وفى قلوب محبيها.