محامية بالنقض: لا يجوز ترك تكوين الأسرة للمصادفة والعشوائية.. وفحص نفسى وعقلى إلزامى ضرورة لحماية المجتمع
ما زالت قضية زواج المرضى النفسيين تفتح بابا واسعا للنقاش، بين من يعتبر الأمر حقا أصيلا للإنسان فى أن يبنى أسرة، وبين من يراه خطوة قد تحمل مخاطر يترتب عليها آثار سلبية، إذا غاب عنها الفحص النفسى. فمن الناحية الشرعية يرى بعض الفقهاء أن الزواج فى حد ذاته جائز بضوابط محددة، فيما يصر آخرون على أن إتمام عقد الزواج يجب أن يسبقه تقييم نفسى يضمن الحد الأدنى من الاستقرار.
وعلى أرض الواقع، تكشف التجارب والشهادات التى نحن بصدد عرضها فى التحقيق أن كثيرا من هذه الزيجات لا تعيش طويلا، لأنها تبدأ ضعيفة من الأساس، بلا مقومات حقيقية للاستمرار.
فهناك من يرى فيها محاولة يائسة سرعان ما تنتهى بالطلاق، فى حين يدافع فريق آخر عن حق أصحاب الاضطرابات النفسية فى الزواج مثل غيرهم، لكن الخطر الحقيقى كما يحذر بعض الخبراء يكمن فى تجاهل الفحص النفسى، إذ قد يتحول الزواج وقتها إلى عبء ثقيل يترك أثره على أسرهما والمجتمع كله.
فى قرية صغيرة بأحد أحياء محافظة الجيزة، تابعنا قصة تعكس حياة بعض الأطفال والواقع القاسى عليهما جراء قرارات الأهالى غير المدروسة، ويروى الجيران تفاصيل قصة زواج انتهت بالفشل قبل أن تبدأ، لم يكن الأمر مجرد خلاف عابر بين زوجين، بل مأساة صنعتها قرارات أسرية متسرعة وضغوط اجتماعية، دفعت بأسرتين إلى تزويج اثنين من أصحاب الاضطرابات النفسية، أملا فى أن الزواج قد يصلح ما أفسده المرض، لكن النتيجة كانت كارثية، انفصال مبكر، أطفال بلا رعاية كافية، وأطراف عاجزة عن تحمل مسؤولياتها.
قصة تلك الأسرة دفعتنا إلى مزيد من البحث حول هذه الواقعة، ومعرفة هل هى حالات نادرة أم مُكررة فى مناطق مختلفة، وبالفعل وجدنا أنها ليست حالة فردية، بل كانت تلك القصة الصغيرة، تعكس أزمة أكبر تتعلق بمدى أهلية المرضى النفسيين والعقليين لخوض تجربة الزواج والإنجاب، فبدأنا البحث بشكل أكبر، لنجد أن الجدل دائر بين من يرى تلك الفكرة حقا إنسانيا أصيلا لا يجوز حرمان أحد منها، ومن يعتبرها مخاطرة اجتماعية وإنسانية تضر بالأبناء والمجتمع، ليظل الجدل مفتوحا، خاصة فى ظل غياب تشريعات واضحة وآليات متابعة فعالة.
زواج يتحول إلى مأساة.. إحدى الشهادات تقول: «يا ابنى، أنا شفت المأساة دى بعينى مرتين»، يروى «الحاج حسن»، من إحدى القرى، تفاصيل زواج شابين من ذوى الاضطرابات النفسية انتهت بالطلاق.
«أ» و«أ» شاب وفتاة يعانيان من مشاكل نفسية متفاوتة، قرر أهلهما تزويجهما تحت شعار «حقهما فى تكوين أسرة»، دون النظر إلى المآلات، فبعد عام فقط انتهت الزيجة بالطلاق، تاركة طفلة صغيرة تتنقل بين أقاربها أحيانا، وتجد نفسها أحيانا أخرى وحيدة فى الشارع.
ويقول «الحاج حسن»: «للأسف الناس بتقول البنت كبرت ولازم تتجوز، لكن محدش بيسأل هى مستعدة نفسيا أو لأ».
ويروى تفاصيل المأساة قائلا: «قررت العائلتان أن تمنحا أبناءهما حق الزواج رغم معاناتهما من اضطرابات نفسية وعقلية بدرجات متفاوتة، كان قرارا محفوفا بالمخاطر، لكن الأهالى رأوا أنه لا يجوز حرمانهما من حق إنسانى أصيل لمجرد اختلافهما عن الآخرين.
وأضاف: «تم الزواج وسط معرفة كاملة بحالة العروسين، لكن سرعان ما تبين أن الواقع أكثر قسوة مما تخيله الجميع». ويؤكد: احتاجت «أ» الزوجة إلى رعاية نفسية واجتماعية متواصلة، بينما كان «أ» الزوج نفسه بحاجة لدعم وعلاج منتظم، فالأسرة لم تستطع تحمل العبء، والمجتمع لم يمنحهما سوى نظرات الشفقة.
المأساة بلغت ذروتها بعد إنجاب طفل، يواصل «الحاج حسن» فأصبحت هى والرضيع فى حاجة ماسة إلى رعاية متخصصة، بينما الزوج يواجه عجزا عن القيام بدوره الطبيعى كرب للأسرة، فتصاعدت المشكلات سريعا حتى انتهى الأمر بانفصال الزوجين، تاركين خلفهما طفلا صغيرا يواجه مستقبلا غامضا.
وحالة ثانية، يروى أحد الجيران أن الجميع لم يكن يتوقع زواج «م»، نظرا لمعاناته من اضطرابات عقلية ونفسية يعرفها كل سكان القرية، لكن أسرته أقدمت على تزويجه من فتاة من خارج القرية، كانت هى الأخرى تعانى من مشكلات نفسية وعقلية.
يواصل حديث: «لم يدم الزواج طويلا، فالمشكلات سرعان ما تفاقمت ووصلت إلى حد الشجار العلنى فى الشارع أمام الأهالى، حاولت أسرة «م» التدخل أكثر من مرة، إلا أنهم سرعان ما شعروا بالندم بعد إتمام الزواج، لكن بعد فوات الأوان».
يؤكد: «أنجبت الزوجة طفلة صغيرة، ومع ذلك لم تتوقف الأزمات، إلى أن تركت بيت الزوجية دون عودة، تاركة وراءها رضيعتها بلا مبالاة، ومنذ ذلك الحين تولت أسرة الأب مسؤولية تربية الطفلة، لكن بحسب وصف الجار «لا أحد يهتم حقا بطفلة تحتاج رعاية خاصة مثلها».
القوانين الحالية تمنح الحق فى فسخ عقد الزواج عند ثبوت المرض العقلى المستحكم، لكن آلاف الزيجات تتم دون أى فحص نفسى أو عقلى، تاركة العائلات تواجه النتائج وحدها.
وتنص المادة 11 من قانون الأحوال الشخصية على استدعاء خبراء لتقييم الحالة قبل الحكم، ما يضع عبء القرار على الأطباء النفسيين.
وتشير الإحصاءات إلى وجود أقل من طبيب نفسى لكل 100 ألف مواطن، فيما يعانى نحو ربع المصريين من اضطرابات نفسية خلال حياتهم، وفق المسح القومى للصحة النفسية.
وجهة نظر الدين والقانون.. الأستاذ الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، يرى أن منع الزواج بشكل مطلق قد لا يكون مبررا فى بعض الحالات.
وأضاف فى تصريحات لـ «اليوم السابع»: «إذا كان المرض النفسى أو العقلى يقضى على الإدراك تماما، فلا معنى للزواج، لأنه فى هذه الحالة لا يدرك المريض الأسرة ولا الإنجاب ولا الحقوق والواجبات، أما إذا كان المريض مدركا لتصرفاته، فلا مانع من زواجه، شريطة متابعة طبية متخصصة وإشراف من شخص أمين أو من النيابة الحسبية لضمان حماية حقوقه».
وشدد أستاذ الشريعة على ضرورة مراعاة مشاعر الأسر، خاصة فى حالات الخلل النفسى البسيط أو القابل للعلاج، مؤكدا أن الإعاقة الجزئية أو المؤقتة لا تمنع من الزواج بخلاف الإعاقة الكلية، ولا داعى لتوجيه اللوم إلى الأهالي، فهذا من مكارم الأخلاق».
وأكد «كريمة» على مسؤولية الأطباء النفسيين والدعاة فى تصنيف الحالات بشكل علمى وشرعي، بحيث يتم التعامل مع كل حالة على حدة، داعيا إلى تجنب الأحكام العامة التى قد تضر المرضى وذويهم.
من جانبها، قالت «مها أبو بكر» المحامية بالنقض فى تصريحات خاصة لـ«اليوم السابع» أن منظومة فحوص ما قبل الزواج فى مصر تقتصر حاليا على التحاليل الطبية والهرمونية المتعلقة بالقدرة على الإنجاب، بينما لا تشمل أى فحص نفسى أو عقلى للزوجين.
وأضافت «أبو بكر» أن إدخال الفحص النفسى والعقلى أمر ممكن من خلال تعديل تشريعى يضيفه إلى شروط إتمام الزواج، على أن يتم إجراؤه فى أماكن معتمدة تابعة للحكومة ضمن الأوراق الرسمية لعقد القران.
وأوضحت أن الفحوص الطبية الحالية لا تمنع الزواج فى حالة وجود مرض معدٍ، لكنها تخطر الطرف الآخر فقط، مؤكدة أن نفس المبدأ يمكن تطبيقه على الفحص النفسى والعقلى لإعلام الطرف الآخر بأى مشكلات قد تؤثر على استقرار الحياة الزوجية.
وأشارت إلى أن الزواج دون فحص أو تقييم للأهلية العقلية قد يؤدى إلى مشكلات كبيرة.
ولفتت «أبوبكر» إلى أن نسب الطلاق فى الزيجات المبكرة مرتفعة للغاية، مؤكدة أن الحل يكمن فى إلزام المقبلين على الزواج بفحص بدنى ونفسى وعقلى شامل، إلى جانب برامج تأهيل على الزواج وإدارة الأسرة، بحيث تصدر لهم شهادة رسمية من إحدى مؤسسات الدولة لتكون شرطا أساسيا لعقد الزواج سواء للمسلمين أو المسيحيين.
واستشهدت بمشروع «مودة» الذى تشارك فيه عدة مؤسسات رسمية بهدف دعم الأسرة المصرية، مؤكدة ضرورة أن تكون هذه الشروط إلزامية وليست اختيارية لحماية الأطفال من آثار الطلاق السلبى على صحتهم النفسية.
واختتمت تصريحاتها بقولها: «مصلحة الدولة والمجتمع تقتضى أن ينشأ أطفالنا أصحاء نفسيا وعقليا وبدنيا، لأنهم مستقبل هذا الوطن، ولا يجوز ترك تكوين الأسرة للمصادفة أو العشوائية.»
من جانبه، يشير الدكتور وليد هندى، استشارى الصحة النفسية والعلاقات الأسرية، إلى أن الفحص النفسى يحد من الطلاق ويحسن جودة الحياة الأسرية، موضحا أن بعض الأمراض الوراثية أو الخلقية تستدعى الوقوف الجاد أمام مسؤولية المجتمع تجاه المقبلين على الزواج، داعيا المشرعين إلى ضرورة تقنين الفحص النفسى والطبى كشرط أساسى لعقد الزواج لضمان أسرة مصرية صحية وسليمة.
ويقول الدكتور سمير الدميرى، مدير عام الإدارة العامة لصحة المرأة والطفل بوزارة الصحة، إن الفحص الطبى قبل الزواج يمثل نقطة انطلاق لبناء أسرة سليمة صحيا ونفسيا واقتصاديا، مشيرا إلى أن النتائج تسلم بسرية تامة لكل طرف على حدة، مضيفا أن الفحص يشمل جلسات مشورة أسرية ونفسية لإعداد الزوجين للحياة الجديدة، والتعامل مع الضغوط المرتبطة بمرحلة الزواج.
وأكد أن الجانب النفسى أصبح جزءا أساسيا من المبادرة، إلى جانب الفحوص الطبية، بهدف تكوين جيل خالٍ من الأمراض يمكنه التمتع بصحة أفضل.
وأشار إلى أن الفحوصات تمثل حلقة متكاملة تبدأ من صحة الزوجين، ثم رعاية الأم والجنين، وصولا إلى متابعة صحة الطفل حتى مرحلة المدرسة، ما يضمن استمرارية الرعاية الصحية للأسرة فى مختلف مراحلها.
فيما تتفق المصادر الشرعية والقانونية على أن المسألة لا تحتمل التعميم، وأن كل حالة يجب أن تخضع لتقييم فردى، ومع غياب قواعد بيانات دقيقة أو متابعة رسمية لحالات الزواج؛ تبقى الحاجة ملحة لتشريعات تنظم الأمر، وتوفر بنية صحية ونفسية كافية لدعم مثل هذه الزيجات.

